مقاربة صوتية.
إلى روح شيخنا ومعلمنا
المرحوم عارف عاصي
مقاربة صوتية لقصيدة الشاعرة
خديجة البعناني في رثاء شيخنا
عارف عاصي رحمه الله رحمة واسعة.
يقولون مُتَّ..
هجرت القوافي تركت المتون
قرحت الماَقي دررت العيون
وقد كنتَ تهفو وراء المعاني
تُهدِّي الكلوم تواري الشجون
-=-=-=-=-=
يقولون مُتَّ
تركت البيان وسحر البحور
ونبض الأغاني وشدو السطور
وكم كنت تبني لنا من جمال
به النفس تزهو وتحسو الحبور
-=-=-=-=-=
يقولون مُتَّ
هنا الصفو ولّى كسته الغيوم
هنا الشعر باد نعاه الوجوم
لماذا رحلت بدون الوداع؟
عجولا سكنتَ ضياء النجوم
-=-=-=-=-=
يقولون مُتَّ
هنا الحرف يرثي يُسيح المقل
فيبكي البسيط يواسي الرمل
لماذا غدوتَ كطيف لما؟؟
قهرتَ اليتامي بصرح 'الأمل' ؟
-=-=-=-=-=
يقولون مُتَّ
زهدتَ الدّنا وافترشت الثرى
وكم كنت تخشى بوقت السرى
تناجي الاله وتتلو الكتاب
وتدعو السما حين يجفو الكرى
-=-=-=-=-=
يقولون مُتَّ
تركتَ الأماني ودنيا البشر
وحيدا غريبا حضنت القدر
ألست سعيدا رغبت الرحيل؟
تركت القصيد وطيب الأثر
-=-=-=-=-=
يقولون مُتَّ
فكيف يموت رحيق الورود
ويغفو بعيدا يديم الشرود
وكيف يموت الفؤاد الذي
يناجي الاله يطيل السجود؟
-=-=-=-=-=
يقولون مُتَّ
وهل تغرب الشمس قبل الشروق
وهل يهجر النحل شهد الطيوب؟
وهل يسكن الضي غير الصباح؟
وهل يترك الطلّ زهر القشيب؟
وهل يكتم الطير لحن الربيع؟
وهل يهرب البدر حين الغروب؟
وهل يبرح السجع روح القصيد؟
وهل تترك الشعر يروي النحيب؟
-=-=-=-=-=
يقولون مُتَّ
هنا سوف تحيا كلحن الخلود
نعم لن تموت بعيدا غريب
هنا من 'تبوك' لنيل الصعيد
نعم سوف تبقى بكل القلوب
فطِب يا صديقي ونم في سلام
ففي كل ذكر لنا لن تغيب..
خديجة البعناني
المغرب
O4/06/2021
هذه مرثية باذخة ،من
إمضاء الشاعرة القديرة
خديجة البعناني ، في شيخنا الرحل عنا الشاعر الفحل المجيد ، والناقد الحصيف - المغفور له بإذن الله تعالى - : عارف عاصي - رحمه الله -وطيّب ثراه وأنزله منازل الصّالحين - .
قرأتها عدة مرّات ، وكلّما فرغت من قىاءتها شاقتني معانيها ، وموسيقاها الشجية لأعيد قراءتها مرّات أخر ،ما جعلني أتأمّل مستوياتها الأربع كنسق لغوي ، مغلق ، مضغوط ، وذلك ما استهواني لأجري عليها مقاربة صوتية ، بدراسة مستواها الصوتي .
ورغم فقري للأدوات الإجرائية اللازمة اقتحمت حصنها المهيب مستعينا بالله تعالى ، سائله التوفيق والتسديد.
فمن حيث الشكل إعتمدت شاعرتنا في نصها نظام الشطرين ، على المنوال الخليلي، العمودي راكبة بحر المتقارب ، بجوازاته العروضية ، وهو بحر سلس جميل ينتمي عروضيا إلى دائرة المتّفق ،التي تضمّنت بحرين اثنين هما : بحر ، بحر المتدارك وبحر المتقارب الءي تتهادى تفعيلاته بكل سلاسة وهدوء ، ما جعل الشاعرة تبدع في نسج كلماتها عليه .
مفتاح بحر المتقارب ووزنه حسب الدائرة العروضية كما وضعه الإمام صفي الدين الحلّي - رحمه الله - واضع مفاتيح بحور الشعر الخليلية،هو:
عن المتقارب قال الخليل
فعول فعول فعولن فعول.
وحسب الإستعمال :
فعولن فعولن فعولن فعول.
وله أعاريض وأضرب لا يسع الوقت لذكرها.
فاستعمال شاعرتنا بحر المتقارب من دائرة المتفق فيه دلالة على تقارب واتفاق الأفكار والأرواح مع بعضها بعض ، والمودة والتقدير التي تكنه لشيخنا عارف عاصي -رحمه الله-
ولقد نطقت بذلك في تقديم قصيدتها بقولها: إلى روح شيخنا ومعلمنا المرحوم عارف عاصي.
......
ثم تبدأ بالعنوان بقولها :هنا سوف تحيا ، وهذه عبارة تكوّنت من عشرة حروف خمسة مهموسة ، وهي : الهاء والسّين والتّاء والحاء ، وجملة حروف الهمس عشرة أوردها علماؤنا في قولهم :مهموسها ( فحثه شخص سكت ) وما دونها حرف مجهور، وخمسة مجهورة وهي: النون المفعمة بنبرة الحزن،وهي من الحروف البكائية اللّام والميم والنّون ، والتي من صفاتها الملازمة لها الغنّة وهو صوت يخرج من الخيشوم ، والألف مكرّرا مرتين ، وحرف الواو اللذان هما من أحرف الجوف ذات المخرج المقدّر التي تنتهي إلى الهواء، والواو مع الالف من حروف النّدب في لغتنا العربية ،وفي ذلك دلالة على أن الشاعرة المفجوعة في شيخها ومعلّمها لما تأكدت من وفاته ورحيله إلى الأبد كأنها تهمس في أذنه قائلة لن أنساك يا شيخي وستبقى حي هنا في وجداني وفي شعري ثم تجهر بصوتها للمتلقّي تندب شيخها باكية حزينة ، قائلة وإن مات شيخينا فسيبقى حي في وجداننا وإياكم أن تنسوه.
.....
ثم براعة الإستهلال التي وفّقت فيها شاعرتنا المجيدة بقولها : يقولون مت !! وهذا الإستهلال يعكس حيرتها ودهشتها لموته ، وكأنها لم تصدق نبأ وفاته ، وفي الآن نفسه تلقي لومها على الأسرة والأصدقاء الذين أذاعوا النبأ وتحملهم مغبّته وتتبرأ هي منه ،
.......
ثم تصرخ مخاطبة شيخها ومعلّمها بقولها مسلّمة بقضاء الله وقدره باكية حزينة قائلة :
هجرت القوافي تركت المتون
قرحت المآقي دررت العيون
..
إلى آخر بيت من المقطع الأول ، الذي يعكس لنا حزنها الشديد وبكاءها الشديد على رحيل شيخها ،من خلال ما تضمن من كثرة الحروف البكائية المغنّة وهي النون واللام والميم وكفى بحرف الروي وهو حرف النون شاهدا على ذلك.
.....
ثم تعود لتقول مرّة أخرى :
يقولون مت !!!!!
محتارة متعجّبة مندهشة من هذا النّبإ المصمئل ،الذي حلّ عليها كالصّاعقة .ثم تحادثه حزينة منكسرة مرّة أخرى بقولها :
تركت البيان وسحر البحور
ونبض الأغاني وشدو البحور
..
ثم تشيد بخصاله وأعماله التي كان يقوم بها فيدخل السّرور والبهجة على نفوس المتلقّين فتفرح وتزهو.
...
ثم تعود لتكرر لفظ : يقولون مت !!!
وقد سبق بيانها ، وهنا أتوقف لأذكر بأن القصيدة جاءت ذات ثماني مقاطع مختلفة الرويّ ، وفي ذلك دلالة على تعير الحال، حال الشاعرة من الفرح والأنس إلى الحزن والنحيب ، وكأنها تقول لشيخها الراحل عنها : يا شيخي العزيز لو عبّرت بكلّ الحروف الهجائية، وحروف المباني، وحروف المعاني، وبكلّ لغات البشر فلن أوفيّك حقك ولن أستطيع إيصال مدى حزني عليك للعالم بأسره ، وليس للمتلقّي فقط . كما نلاحظ ان تلك المقاطع جاءت مترابطة المعاني مسبوكة محبوكة بأنامل شاعرة مجيدة أفرغت شحنة حزنها وبكائها، عبر هذه المقاطع ، بعاطفة متدفّقة ونبرة حزن طاغية.
.....
نظرتي العامّة للقصيدة ببحرها ،ودائرتها العروضية، وبمقاطعها ورويها المختلف، وهيمنة الحروف البكائية المغنّة المفعمة بنبرة الحزن، وهي النون والميم واللام ، وحروف المد المنتهية مخرجا إلى الهواء .
لخصت لنا شاعرية الشّاعرة وتمكّنها من ناصية الشّعر، لغة ظهرت كالعجين طيعة بين أصابعها تشكّل منها ما شاءت من إبداع وسحر بيان ، وعاطفة متدفّقة ترجمتها قريحتها المدهشة .
كما أظهرت تمكّنها من البلاغة بيانا ومعان وبديعٍ .
فلله درك شاعرتنا المجيدة ، واتمنّى لك كل التوفيق والنجاح، وأعتذر منك على عدم تمكني من كشف أسرار مرثيتك ، نظرا لضيق وقتي وفقري العلمي .
وساحاول دراستها بإذن الله على المستويات الثلاثة الباقية ، المستوى الصرفي والتركيبي والدلالي ، إذا سنحت الفرصة لذلك و وفقني الله تعالى .
وكتب بدر الزمان بوضياف الجزائري.
المنتدى العالمي للأدباء والكتاب العرب
تعليقات
إرسال تعليق