سقوط الأمم بهدم القيم
صخر محمد العزة
سـُقــوط الأُمــم بِــهــدْم الــقـيــم
عندما نزرع نباتاً في بستانٍ ما ومن أجل أن نحصل على ثمارٍ طيبة يجب أن نراعي أن تكون التربة مناسبة لهذا النبات ، وأن نزودها بالأسمدة الطبيعية الجيدة والماء النقي ، لنضمن بذلك أن يكون حصادنا طيباً ومثمراً ، ننفع به أنفسنا وننفع غيرنا ، وكذلك الحال في الأوطان التي هي البستان الكبير الذي يضمُّ مكونات المجتمع ، وغراسنا هو الجيل الناشىء الذي هو أمانة في أعناق من ينشئه ويوجهه ، وهؤلاء المنشؤون والموجهون هم القدوات الثلاث ممثلة بكل من الأسرة بالوالدين بالأب والأم ، فهما الموجهان لأبنائهما والذي يولد الطفل على فطرة أبويه ليس في الدين فقط بل بالتربية والأخلاق فكما تزرع تحصد ، وننطلق من قول النبي محمد صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه -رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء ) ومن ثمَّ المدرسةممثلة بالمعلمين الذين يقع على عاتقهم تنشأة الأجيال ، فهم المربون بعد الأسرة ، فهما أي الأسرة والمعلمون عاملان متلازمان مترابطان بهذا الخصوص ، وتأتي بعد ذلك القدوة الثالثة ألا وهي عُلماء وقادة الأُمة ، وكما قال الله تعالى في سورة إبراهيم – الآية 24+25 : {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء(24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(25) } فالكلمة الطيبة هي الثمرة والشجرة هي المؤمن الذي هو كشجرة النخيل يرتفع عمله في السماء بارتفاع فروعه ، وسيكون نتاج ثمرها طيباً ، وإذا كانت خبيثة فهي كشجرة الحنظل إجتُثت من من فوق الارض ما لها قرار مكين ، قال تعالى في سورة إبراهيم – الآية 26 : { وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ } .
إنَّ ما دفعني لكتابة هذا المقال ، وأن أُسلِّط الضوء عليه هو حالة الضياع للأجيال في وقتنا الحاضر ، وإنَّ قوة الأُمم وعنوان نهوضها هم جيل الشباب ، ولكن كيف يكون لهذا الجيل أن ينشأ ويترعرع إذا كان الأساس هشاً وضعيفاً ، فما نراه من الواقع الأليم والمُلتبس للأمة الإسلامية اليوم بحالات متباينة من الخلل الناشئ عن التضخم الكمي الذي فرض نفسه على واقع الأمة على حساب التربية من وسائل التواصل الإجتماعي التي هي سلاح ذو حدين ، إذا ما تنبهنا لها وإلى ما تروجه من أفكار خبيثة في مجتمعاتنا وقد أدى ذلك إلى أفراز جيلٍ يعيشُ في عالم من التفاهات دون رقيبٍ أو حسيب ، وقد أدى ذلك إلى إفراز ظواهر مرضية من أخطرها تطاول الصغار على الكبار والجُهال على العُلماء وطلبة العلم على بعضهم والدعاة على بعضهم البعض ، ولقد انتشر بيننا الرويبضة الذين يتحدثون بأمورٍ يفقهونها وقد حذرنا رسولنا الكريم منهم ، إذ قال عن إبن ماجة وأحمد :
(سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل السفيه يتكلم في أمر العامة ) ولهذا نجد الآن الكثير من أمثال هؤلاء ممن يتكلمون ويتحدثون بأمور السياسة والدين والإقتصاد ، والثقافة وفي كل مجالات الحياة ، وقد يصدقهم عوام الشعب البسطاء .
إن أخطر الأمور التي تواجه مجتمعاتنا حالياً هو تكوين شخصية الأجيال الجديدة ، ففي هذا الزمن الذي انفتح الناس فيه على بعضهم واختلط المسلمون بغيرهم ، أصبح الحقُّ والباطل في صراع عظيم ، وبدأ أهل الباطل يروجون لباطلهم وذلك من خلال الإعلانات والقنوات الفضائية ووسائل التواصل الإجتماعي ، فنرى ظواهر لا تُبشر بخير في مجتمعاتنا التي تربت على الدين والقيم والأخلاق ، فنرى المتسكعين في الشوارع من مدخنين ومتعاطين للمخدرات ، ولا يعرفون شيئاً من الحياة ، فحياتهم أصبحت مُتعلقة بهواتفهم الخلوية التي لا يوجد عليها لا رقيب ولا حسيب ، ولا يهمهم فيها إلا الأمور الوضيعة من إباحية وبرامج لا تُسمن ولا تُغنى من جوع ، كمواقع ( التِك توك ) ومثيلاتها ، حيث نجد شباباً وشابات بعمر الورود يقومون برقص وحركات غريبة لا معنى لها ، ومنهم من ينشر الحِكم ويعدون أنفسهم أدباء ، وآخرون يدَّعون بالعلم ويقدمون النصائح ، وقد اكتسحت هذه التفاهات عالم المال والصناعة ، وكل همهم جمع المال والشهرة ، ونرى من يُتابع ويشجع هذه التفاهات ، وكل ذلك عائد إلى خللٍ إجتماعي يبدأ من الأسرة –إلى المدرسة ومن ثمَّ إلى قادة وعلماء الأمة ، فالآباء والأمهات لاهون في معترك الحياة فالأب كالآلة يعمل ليل نهار من أجل توفير لُقمة العيش ولا يدري شيئاً عن ابنائه ، والأم مشغولة بالحديث وبقصص لا معنى لها ونشر كل شيء على الفيس بوك والواتسب وكل وسائل التواصل الإجتماعي ، تاركةً أبناءها نهباً لسوء التربية والمخدرات وقلة الأخلاق ، لعدم وجود من يوجههم للمسلك الصحيح ، وبذلك يأخذ كل فرد منهم نصيبه من سموم السوشيال ميديا ، التي هي مصنع للتفاهات ، لأنها تدعم الرموز التافهة ، وماذا نقول لمن يمنح لقب الأم المثالية لراقصة !! ، ومن يمنح لمغنٍ ماجن شهادة دكتوراة فخرية !! وما هذا إلا نوعٌ من صناعة التفاهات ، ومن هنا يأتي مكمن الخطر ، فالإقتداء بالسيء يُنسي القُدوة الحسنة بتشجيع ذلك ودعمه يكون هدفه تدمير بُنية هذه الأجيال وتخريبها وفصلها عن هويتها وعن دينها وعن قيمها وقضاياها ومن أجل جعل الحياة بلا ضوابط ولا حواجز ولا موانع سواء كانت تعليمية او دينية أو أعراف وتقاليد وقيم إجتماعية وأخلاقية ، ومن الجناية على الأمة أن يتم إظهار أهل اللعب والمجون والخلاعة على أنهم نجومٌ وقدوات ونتناسى العظماء ممن قدموا خدمات جليلة لأمتهم وللعالم أجمع ، وكل ذلك يدفع المجتمع للإنقياد نحو هذا العالم السفلي ، وعلى هذا المنوال نجد عالم التفاهة يكبر ويكبر معه جيلٌ بعد آخر ، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً .
وبهذا فكيف لنا أن نعتب على هذه الأجيال ونريد صلاحها وقدواتهم سيئة غير صالحة وهي من يحتاج إلى إصلاح ؟!! فالأسر مفككة والتدريس في الحضيض ولا احترام للمدرسين الذين هم ورثة الأنبياء ، وكذلك خروج طبقة من العلماء المغرضين والمشبوهين يحرفون الكلم عن مواضعه وذلك لحاجة في نفس يعقوب ، وقد قال تعالى في سورة النساء – الآية 46 :{ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ } أي أنهم كاليهود بأفعالهم ، ولهذا فإن أجيالنا تفتقد إلى القدوة الحسنة والتربية الدينية الصحيحة .
وأقول أن كل ما يحصل في هذا الزمان الصعب المتغير والذي تعاظمت فيه الفتن ، هو لقلة الناصحين وغياب المنهجية الدعوية المتكاملة وتهاوي القدوات وخلط في المفاهيم ، وتغيير في المنهج والسلوكيات ، وكل هذا سببه أنهم نسوا كل ما يتحلى به ديننا العظيم من أخلاق وقيم تحُض على التآخي والمودة وحقوق الأُخوة الإسلامية ، وتربية الأجيال التربية الإسلامية الصحيحة .
بعد كل ذلك أود القول أن نهضة الأمم تتوقف على إظهار القدوات الصالحة وتاريخنا الإسلامي حافلٌ بالكثير من القدوات العظيمة ، وعلينا إحياء تاريخ الأماجد من أبنائها وعلمائها الذين يُشار لهم بالبنان ، وتوجيه جيل الشباب الناشئ من أبناء الأمة إلى اختيار أمثال هؤلاء من أصحاب الهِمم العالية والمنجزات الرائعة وحثَّهم على اتخاذهم أسوة وقدوةً لهم ، ونحن كمسلمين قدوتنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلَّم وصحابته الكرام رضي الله عنهم ، ومن تبعهم من قادة أمتنا وعظمائها ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما : (لا يُؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ) فأزمتنا أزمة قدوات فبسقوط القدوات تسقط الأمة كلها ، وتربية الأجيال ليس فقط برعايتهم بتقديم المأكل والملبس ومتابعة دراستهم ، ولكن الأهم كيف نغرس فيهم أخلاقنا وقيمنا وديننا ؟! وأن نأخذ الصالح فقط من أي شيء دخيلٍ على مجتمعنا وليس كل شاردة وواردة دون تقييمها ومعرفة ما وراءها وما أهدافها ، ويجب تنمية حُبهم بالإقتداء بقدواتنا من عظماء أمتنا الإسلامية والعربية ، ولنكون قدوة صالحة لغيرنا علينا أن لا نُهمل الأمور التالية :
أولاً : الصلاح في الباطن : هو الإيمان بالله عزَّ وجلْ والإخلاص له في العبادة ، فإنَّ فيه جِماع الخير كُله ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم – رواه مسلم : عن النواس بن سمعان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( البرّ حسن الخلق ، والإثم ما حاك في نفسك ، وكرهت أن يطلع عليه الناس ) .
ثانياً : حُسن الخُلُق : التمسك بالأخلاق الحميدة والقيم الجميلة هي الأساس في التعاملات ونشر المحبة بين طبقات المجتمع والإنسان القدوة هو المثال ، وما انتشر الإسلام إلا بالقيم والأخلاق التي تحلى يها الرسول وصحابته ومن تبعهم ، قال تعالى واصفاً رسول الله في سورة القلم – الآية 4 : { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } .
ثالثاً : بناء القناعات وتشمل العقيدة .. المبادئ .. القيم .. الطموحات .. فهم الحياة .
رابعاً : توجيه الإهتمامات : وتشمل ما يشغل بال الانسان وكيف يقضي وقت فراغه ، مع متابعة الأسرة ومراقبة تصرفاته ومعرفة رفاقة .
خامساً : تنمية المهارات بأنواعها المختلفة- رياضية- فنية- عقلية- اجتماعية- إدارية- علمية .
سادساً : فهم قواعد العلاقات : من تصاحب؟ من تتجنب؟ وكيفية بناء العلاقات وإصلاحها أو إنهائها .
سابعاً : موافقة القول للعمل : وهنا يجب على الإنسان مطابقة القول بالعمل ، ومن يقوم بذلك سيكون مثالاً يُحتذى إن كان أباً مع أبنائه أو مدرساً مع طلابه ، أو قائداً مع أمته وشعبه ، ومن لا يُطابق فعله قوله سيكون كالإبرة التي تكسو غيرها وهي عارية أو كالطبيب الذي يداوي الناس وهو عليل ، وقد قال الله تعالى في ذلك في سورة الصف – الآيات 2+3 : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ(2)كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ(3) } وقال أيضاً جلَّ عُلاه في سورة البقرة – الاية 44 : { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } وبهذه الأمور تكون القدوة الصالحة وبغيرها لا تتحقق ، ويكون الأجيال هم الشُعلة المضيئة لمجتمعاتهم وهم الأعمدة التي يكون نهوض الأمة على أساسها ، فإن صلُحت القدوات ،صلُحت الأجيال ، وصلُح المجتمع ،و قد قال الشاعر أبو الأسود الدؤلي في ذلك :
يا أيها الرجل المعلم غيره
هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذى السقام وذى الضنى
كيما يصح به وأنت سقيم
إبدأ بنفسك فانهها عن غيها
فإذا انتهت عنه ,فأنت حكيم
فهناك تعذر إن وعظت ويقتدى
بالقول منك , ويقبل التعليم.
لا تنه عن خلق وتأتى مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم
ثامناً : إختيار القدوات : وهم المـُثـُل العليا الذين يتطلع إليهم الإنسان ليصبح مثلهم ، قال تعالى في سورة الأنعام – الآية 90 : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} وخير وأعظم قدوة لنا هو رسولنا الكريم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلَّم ، وقال الله تعالى في سورة الأحزاب – الآية 21 : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } .
وختاماً أقول لا بُدَّ لنا من عودتنا إلى ديننا وتمسكنا بأخلاقنا وقيمنا وأن تكون قدواتنا عظماء أمتنا الإسلامية من صحابة رسول الله ومن تبعهم ، فالقدوات هم طريق النجاة .
والصلاح إلى الأمم ، ولا يستغنى الإنسان عن مثالٌ له يحذو حذوه إن خيراً أو شرً ، لأجل ذلك كانت وصية الله تعالى لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أن يتخذ من سلفه من الأنبياء قدوةً وأسوة ، قال تعالى في سورة الأنعام – الآية 90 : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ }
صخر محمد حسين العزة
عمان – الأردن
28 / 7 / 2022
المنتدى العالمي للأدباء والكتاب العرب
تعليقات
إرسال تعليق