القائمة الرئيسية

الصفحات

أنوار العلم وجاهلية المتعلمين

أنوار العلم وجاهلية المتعلمين


أنوار العلم وجاهلية المتعلمين 

أنوار العلم وجاهلية المتعلمين
صخر محمد حسين العزة 

تعتمد صحة أي إنسان وقوةُ بُنيته بالمحافظة على التوازن والتنوع الغذائي في الأغذية التي يتناولها والتي فيها عناصر غذائية يحتاجها الجسد والتي يعتمد في تناولها لبقاء الجسد مُعافاً وبصحة سليمة وهذه العناصر مثل: (الهيدروجين الأوكسجين والحديد والكالسيوم والبوتاسيوم ) وغيرها من معادن أخرى .

وأيُّ نقصٍ في أحد هذه العناصر سيؤدي إلى خللّ في وظائف أحد أعضاء الجسد، من القلب إلى الكلى وإلى الكبد والدماغ وإلى غيرها من أعضاء، ومن أهم أعضاء الجسد الدماغ الذي بدونه يصبح الإنسان مثله مثل أي كائنٍ حيٍّ آخر، فالدماغ هو مركز التفكير والتدبر والإشعاع وبه يصل الإنسان إلى أعلى درجات العلم والرقي، إذا أحسن استغلاله ونمّاهُ بالعلم والمعرفة، فحضارات الأمم ونهضتها تقوم على قوة العلم وتنوع التعليم، وتطور الدماغ وقوته يعتمد على بداية نشأة الإنسان منذ كان طفلاً وحتى أصبح رجلاً راشداً، وتدرجه في التعليم حتى يصل إلى ما يحققه في حياته، فمنهم من يصبح طبيباً وآخر مهندساً أو محامياً وآخر صحفياً إلى غيرها من مهن ووظائف، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه، وهو لماذا كل صاحب تخصص يبقى حبيساً ومحصوراً في تخصصه ولا يتوسع في العلوم الأخرى التي قد تكون داعمةً ومساعدةً له في مجال تخصصه؟ فما نراه في وقتنا الحاضر من إضمحلال للثقافة والعزوف عن القراءة هذا مردَّهُ أن كثيراً من أصحاب الإختصاص لا يعرفون إجابات شافية إذا سألتهم أو ناقشتهم في مواضيع أخرى غير اختصاصهم ولست أقصد أن يكون متبحراً بل أن يكون مطلعاً ومواكباً لكل ما يستجد في هذا العصر، فالعقل مثل الجسد بحاجة إلى التنويع في الغذاء، وغذاء العقل العلم والمعرفة والثقافة بكل أنواعها، ولا يكون محصوراً بما تعلمه فقط من هندسة أو طبٍ أو فلسفة أو غيرها من العلوم .

والذي دفعني لكتابة مقالي هو ما نراه من أمية المتعلمين والسبب ضحالة ثقافتهم وعدم اطلاعهم على العلوم الأخرى وكل ما يستجد في مجتمعه وهذا بسبب العزوف عن المطالعة والقراءة، وقد بدأ الإسلام بالحث على القراءة والعلم، وذلك عندما أرسل الله الوحي جبريل عليه السلام إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حاملاً له رسالة الإسلام حاثّاً وآمراً له بالقراءة، قال تعالى في سورة العلق – الآيات [1-5 ] : 
{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ( 5 )} 
وفي هذه السورة ينقل الله تعالى الناس على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ظُلمات الجهل إلى أنوار العلم والإيمان، وفيها يأمره بالقراءة، فالقراءة هي سُلَّم المجد وطريق العلم والمعرفة ، ويخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من غار حراء حاملاً في صدره أنوار العلم ليُبدد ظلمات الجهل ويمحو آثاره، قال تعالى في سورة الشورى - الآية ٥٢ :
{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} 
إن عملية التعليم يجب ألا تقتصر على عِلمٍ ما بحدِّ ذاته بل يجب أن تتعداه إلى اكتساب العلم والمعارف ليكون شمولياً، فعملية التعليم يجب أن تعتمد على اكتساب المعرفة والمهارات والمبادئ والمعتقدات، وأن تكون شمولية لأمور الحياة بجميع أوجهها ولا يكون ذلك إلا بتثقيف الإنسان بالقراءة والمطالعة والبحوث، فالتعليم هنا له مُنحيان فالأول هو التعليم الموجه الذي يعتمد على المدرسين والمدرسات في المدارس والجامعات والمنحى الثاني هو التعليم الذاتي الذي يعتمد فيه الإنسان على تثقيف نفسه من خلال القراءة والإطلاع على بطون الكتب ومتابعة كل جديد يستجد في حاضرنا، وأن ينظر إلى الحياة من منظور جديد وذلك بأن يتوافق علمه الدراسي أو تخصصه مع الثقافة الذاتية والاستفادة منها في دراسته الأكاديمية ويكتشف أفكاراً جديدة ليطور نفسه ويبدع في كل المجالات، وبدون الإبداع ليس هناك تنمية لجوانب الحياة المختلفة، والمجتمعات المتحضرة تكون رفعتها ونموها بالإعتماد على الأفراد الذين يمتلكون مستويات معرفية وذهنية عالية ومهارات وقدرات تساعدهم على التمكن من تنفيذ حلول أفضل لمشكلات مجتمعهم فبالعلم تنهض الأمم بعلمائها النجباء، وسقوطها يكون بضعفهم وقلة معرفتهم، قال الإمام الشافعي : 
كم يرفع العلم أشخاصاً إلى رُتبٍ 
ويخفض الجهل أشرافاً بلا أدب 

وبهذا فإن دولة الإسلام في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وما تبعها من بعده، يعود الفضل فيه إلى رسولنا الكريم الذي انطلقت الأمة العربية على يديه الكريمتين من الأُمية إلى قمة العلوم والمعرفة، وانطلقوا في ميادين العلم كافة ويتقدمون في ركب الأمم، وأصبحت دول الإسلام تعُجُّ بالمدارس والجامعات التي يتوافد إليها طلبة العلم من كل مكان، فالعلم والثقافة هما ركنان أساسيان في تكوين المسلم، وبذلك أصبحوا السادة في علوم الدين والدنيا، فأين نحن الآن من هذا المجد وهذا الشرف العظيم، فلقد قصَّرنا بحقِّ أنفسنا وتكالبت علينا الأمم، فلا تكون لنا نهضة بدون العلم الذي فيه مبعث ونهوض الأمة، وقد قال الشاعر عمر أبو ريشة: 
أُمتي هل لك بين الأمم 
منبرٌ للسيف أو للقلم .

فالأمة بحاجة إلى رجال أقوياء ينهضون بها وينقلونها إلى مصاف الأمم كما كانت سابقاً، ومن يكُن للإسلام إن لم نكن نحن، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة-رواه مسلم:
( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، إحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقُل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قُل: قدَّر الله، وما شاء فعل، فإن لو تفتح عما الشيطان) 

ولهذا أعود وأقول أن التعليم والثقافة هم عنصران مترابطان ولهما دور كبير في العالم المتحضر، ولهذا يجب أن يكون نظام التعليم المدرسي والجامعي يعتمد على ضمان تنمية مستدامة توفر للإنسان التنمية العلمية والثقافية والسلوكية، وهذا لا يكون إلا بمحو الأمية الثقافية التي تخلق حواجز بين الشعوب والثقافات والديانات واللغات . 

وما نراه في مجتمعاتنا من ضعفٍ في التعليم وعدم الإهتمام بالثقافة التي هي داعم من دعائم التعليم عائدٌ لضعف الإهتمام من الدول في توجيه طلبة العلم إلى  الثقافة بجميع أنواعها، هو ما يُسبب هجرة العقول والمبدعين إلى خارج أوطانهم لعدم توفرفرص نجاحهم في وطنهم، ولهذا يجب علينا مكافحة الأمية التي تتكون من ثلاثة أنواع وهي الأمية الأبجدية(أمية التعليم) والأمية العقلية وأمية المتعلمين .

فالأمية الأبجدية 

فالأمة الأبجدية وهي التي تبدأ بالتعليم منذ الطفولة، والتي يتعلم فيها الإنسان مبدأ القراءة والكتابة منذ الصغر وهي مرحلة التأسيس، وهذه المرحلة يجب ربطها بمرحلة الأمية العقلية وهي تنمية حب القراءة والمطالعة والبحث والمعرفة في الطفل منذ الصغر ، وبترابط هذين النوعين تتلاشى أمية التعليم والتي يعتمد فيها الطالب على تخصصه فقط دون الإطلاع على باقي العلوم، أما الأمية العقلية وهي كما ذكرت أن لا تكون معرفة الفرد مقتصرة على تخصصه فقط بل عليه البحث في العلوم الأخرى، وتكون داعمةً له في تخصصه، ومثال على ذلك، ما نراه من تزمت بعض علماء الدين وتعصبهم في أفكارهم دون التقصي والبحث وإيجاد الحلول، حيث فتح الإسلام باب الإجتهاد حسب ما يستجد من تطورات على مرِّ التاريخ، والقرآن الكريم لكل زمانٍ ومكان، وبالمقابل نرى بعض العلماء الأجلاء أمثال فضيلة الشيخ محمد راتب النابلسي والدكتور عبدالدايم كحيل الذين يوظفون العلم بخدمة الدين وذلك من حيث مطابقة أمور تحصل في وقتنا  الحاضر موجودة في القرآن الكريم وكذلك عن بحوثهم في مسألة الإعجاز في خلق الله في الكون وذلك من نواحي علمية كثيرة . 

أما بالنسبة لأمية التعليم فهي أن كثيراً من الدارسين لتخصصات معينة يبقون محصورين فيما درسوه، ولهذا نرى أن امية التعليم لها ثلاثُ عوامل وهي أولاً ضعف المتعلم في تخصصه ولا يبحث عما يُستجد من تطوراتٍ تحدث في مجال تخصصه، وذلك كالشخص الذي يأكل الطعام ولكن تبقى بُنيته ضعيفة لأنه لم يتزود بالغذاء المناسب والكافي لبناء جسده والذي فيه عناصر القوة لبناء الجسم ودوام الصحة، أما العامل الثاني فهو أن يدعم تخصصه بالقراءة والبحث في العلوم الأخرى التي قد تكون داعمةً لتخصصه وهذه مرتبطة بالأمية العقلية، فقد نرى بعض الدارسين واسعي الإطلاع في مجالهم ولكن عندما تناقشهم في مواضيع أخرى نُحسُّ بضعف إدراكه لأنه أبقى نفسه حبيسة في مجال تخصصه بدون أن يُتعب نفسه بالدراسة وتقصي كل ما يستجد من معلومات ومواضيع تفيده في مجال تخصصه .

بعد كل ذلك يجب على مؤسسات الدول أن تتجاوز وتتجنب حصول الأميات الثلاث واجتثاثها يكون بمراعاة النقاط التالية : 
أولاً : أن الركيزة الأولى في حياة الإنسان هي المرحلة الأولى من حياته حيث يكون صفحة بيضاء فما تغرسه فيها يثبت ويدوم، ولهذا يجب أن نولي مراحل الدراسة الأولى كل الإهتمام لتجنب أمية التعليم ، وذلك بتوفير معلمين قادرين على إنشاء جيل متمكن من تحصيله العلمي ومن دراسته .

ثانياً : تنمية الثقافة بجميع انواعها في نفوس الطلبة منذ الصغر، وأقصد بذلك الثقافة العامة بكافة أنواعها من أدبية وتاريخية وعلمية وفلسفية وسياسية وإلى غير ذلك من علوم .

ثالثاً : نشر المكتبات والمؤسسات التي تدعم الطلبة وتشجيعهم على إرتيادها ولا تكون دراستهم محصورة في مدرستهم أو جامعتهم .

رابعاً : تشجيع الطلبة على البحث والتقصي في كل علوم المعرفة وتطبيقها على أرض الواقع .

خامساً : عمل ندوات وبرامج إعلامية دعماً للثقافة وتشجيع الطلبة عليها بعمل مسابقات دورية فيها .

وختاماً أقول أن البستان لا يكون جميلاً ومزدهياً إلا بتنوع ثماره وتنوع الورود التي فيه، فبالثمار الطيبة وتنوعها يكون بناء الجسد وبالرياحين العطرة ينتشي العقل ويبدع ، ولهذا أقول علينا أن نجعل الكتاب أنيساً لنا، وأن يكون بستاناً يُزين بيتنا، فالكتب هي مستودع المعرفة، وزينة العقول وهي الوسيلة للتفكير الأصيل، وبدون الكُتُب ونهل علومها لا تتقدم الأمم ولا تنهض، وما أسباب تخلفنا وتراجعنا إلا لعزوفنا عن القراءة والمطالعة والبحث كما كانت أممنا السابقة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة: 
( من جاء مسجدي هذا لم يأته إلا بخيرٍ يتعلمه، أو يُعلِّمُه، فهو بمنزلة المجاهد في سبيل الله
وعند الله عزَّ وجل مكانة خاصة وشرفٌ عظيم للعلماء لا يناله سواهم ، قال تعالى سورة الزمر- الاية 9 : 
{ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ }
وعلينا أن نعلم إن في القرآن الكريم ستة آلاف وأربعمائة آية تُعنى بكل ما في الإسلام من أصول وفروع وأحكام وكل ما يخُص الأمور الحياتية من علوم الكون والحياة والنبات والفلسفة والطب والإجتماع والسياسة والإقتصاد،  وكل ما يختص بالثقافة، وكذلك الحال في السُنة النبوية، ففي كتاب واحد من كتب الحديث هو ( بحار الأنوار ) جُمِعَ فيه من الأحاديث التي تتعلق بالعلم والمعرفة ما يزيد عن ثلاثة آلاف حديث، وكل ذلك يعكس مدى اهتمام الإسلام العميق بالفكر والثقافة وليس مقترناً بمجالٍ أو علمٍ واحد، وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: 
(العلماءُ ورثةُ الأنبياءِ، يحبُّهم أهلُ السماءِ، وتستغفرُ لهم الحيتانُ في البحرِ إذا ماتوا إلى يومِ القيامةِ) .

ونهايةً رسالتي إلى  الآباء والأُمهات، أقول أنتم من تزرعون الغِراس وتسقون البذرة، فليكن غرسكم علماً نافعاً، ليكون النمو قوياً ومتيناً، ويكون الحصادُ ثماراً طيبة 
وأنتم يا قادة العلم من معلمين ومعلمات ، فأنتم رواد السفينة تمخرون بها إلى  شواطئ الأمان، فجيلُ الشباب هم أمانةٌ في أعناقكم، فلا تبخلوا بعلمكم وأعطوهم العلم بحقه ، ولا تعتبروا التعليم مجرد وظيفةٌ تؤدونها بل هو رسالة عظيمة تُحاسبون عليها يوم الحساب وكل واحد يؤجر على ما قدم، فالجيل الذي تنشئونه هو كنز الأمة وقلبها النابض وروحها التي تبث فيها الأمل، وعليهم تُعقد الآمال ونهوض الأوطان، قال الشاعر والمؤرخ والفقيه إبن الوردي: 
ليس الجمال بأثواب تُزينها 
إن الجمال جمال العلم والأدب 
وليس اليتيم من لا والدين له 
إن اليتيم يتيم العلم والأدب 
كُن إبن من شئت واكتسب أدباً 
يُغنيك محموده عن النسب 

صخر محمد حسين العزة 
عمان- الأردن
6/9/2022
المنتدى العالمي للأدباء والكتاب العرب

تعليقات