مناظرة بين العقل والقلب للكاتب صخر محمد العزة
مناظرة بين العقل والقلب
للكاتب صخر محمد العزة
عبر مسيرة النفس البشرية في الحياة، وقفت النفس حيرى بين عضوين فيها، ويرتبط مصيرها بالهدى والإيمان أو بين الكفر والضلال، وهما العقل والقلب اللذان يقفان خصمان يتصارعان من أجل أن تكون النفس إما أمارةٌ بالخير والصلاح وإما أمارةٌ بالسوء والشر والضلال، ولهذا دعتهما لتستمع إلى مناظرة بينهما وحوار لتكون الحكم بينهما فقالت : أحبائي أبناء البشرية جمعاء، إننا نحن أبناء آدم مُذ هبط أبانا آدم وأُمنا حواء إلى الأرض، ونحن في صراع دائم سببه الشيطان الذي كان سبب خروج آدم من الجنة ونزولنا على الأرض، وقد استخلفنا الله على الأرض لإعمارها، ولكن الذي يحول بيننا وبين إعمارها وأن نعيش فيها جميعاً بسلام هي وسوسة الشيطان لأنفسنا، قال تعالى في سورة الناس :
{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ(1) مَلِكِ النَّاسِ(2) إِلَهِ النَّاسِ(3) مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ(4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ(5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ(6)}
ومصدر صلاح أنفسنا هما عضوان منا فيهما صلاحنا أو فسادنا، ألا وهما العقل والقلب، فدعوتهما لمناظرة للوصول إلى التوفيق بينهما، وإنهاء الصراع الأزلي الذين به سنصل إلى إطمئنان نفوسنا وننُنهى حيرتنا بينهما، وكما قال الشاعر :
قلبي وعقلي فما أدري لأيهما
أُرخي الزمام واُلقي بالمقاليدِ
خصمان واختصما في كُلِّ شاردة
كأنما وجدا من أجل تشريدي
تجادلا، فأنا المُحتار بينهما
في العقل حُريتي والقلبُ تقييدي
ويبدأ حوارٌ ومناظرة شرسة بين العقل والقلب، وكلٍّ منهما يُريد أن يُثبت أنه هو الصحيح أمام النفس .
العقل في غضب : أيها القلب توقف عن نبضاتك ودقاتك التي تشوش التفكير عندي، فما أنت إلا عضوٌ هزيل والكل يستغلك، ولكن أنا مصدر العلم والتفكير وأنا الذي أوصلت الإنسان إلى أعلى درجات العلم والتطور، وتذكر قول الله تعالى في سورة العنكبوت – الآية 43 :
{ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ }
فهذه الآية قرنت العقل بالعلم، وليس بك أيها القلب
رد القلب بهدوء: أنا من يرى الحق بالعقل والعين، وأنا مصدر الأحاسيس والعواطف، وليس آلة مُسخرة بلا مشاعر
رد العقل ضاحكاً: أنا غير ما تقول، فعن طريقي تستطيع النفس تمييز الكائنات وأنا القادر على أن أعصم النفس من المعصية، ولا أجعلها تُفكر بالشهوات، فأنا المتحكم في النفس البشرية بخيرها وشرها، ومصداق ذلك قوله تعالى في سورة البلد – الآية 10 : { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } وكذلك قال جلَّ عُلاه في سورة الإنسان – الآية 3 : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا }
القلب: لقد صدقت في ذلك، ولا أخرج عن كلام الله عزَّ وجلْ، وأنك وُجِدت للتفكير، ولكن عليك أن لا تنسى أن مركز وجودك في قلبي عندي وأنك جزءً مني، وأن النفس لا تستطيع التفكير من خلالك فقط، قال تعالى في سورة محمد –الآية24 : { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا }
العقل: هل تُنكر أيها القلب أن الفضل يعود لي في التطور والحضارة، وهل البشر يستطيعوا بدوني أن يجتازوا الفضاء ويصلوا إلى القمر، قال تعالى في سورة الرحمن – الآية 33 : {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ }
فهل يستطيعون أن ينفذوا من أقطار السموات بدون العِلم ؛ والعِلم لا يكون مركزه إلا أنا العقل ؟!!
القلب بحِدّة: لا تتعالى أيها العقل، ما نفعُ علم هؤلاء بعلمهم وهم يكفرون بنعمة الله عليهم ويجحدون وجوده فمنهم المُلحد ومنهم من يعبد الأصنام والكواكب ومنهم من يعبد النار أو الحيوانات من بقرٍ وفئران، وغير ذلك من أمورٍ ما أنزل الله بها من سلطان، وهذا سببه أنه عُميت قلوبهم، فهل لك اليد على تغييرهم وإعادتهم إلى جادة الصواب؟!، قال تعالى في سورة الحج – الآية 46 :
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ }
العقل بغضب شديد: فلتعلم أُيها القلب أن المسؤولية والتكليف والتحكم في كلِّ شيءٍ في الكون مركزه عندي، ولا يمكن لك أيها القلب أن تُفكر وترسم الخطط بدوني، فأنا مركز الإدراك
القلب: يجب أن تُدرك أيها العقل أن مركزك عندي، وأن أفعالك مرتبطة بي، وإن كل الحواس والمشاعر الإنسانية، لا يمكن أن تُنفذها دون العودة لي، فأنا المحرك لوجدان الإنسان، قال تعالى في سورة الأحزاب – الآية 5:
{ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا }
وقوله في سورة الحج – الآية 46 : { أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}
وهذه الآية دليلٌ قاطع على أن كل الحواس مرتبطة بي
يرد العقل بهدوء وتروٍّ: إذا علينا أن نتفق معاً من أجل تخليص النفس من شرورها أنا بالتفكير والتدبر وحث النفس على التفكر بخلق الله، وأنت ما عليك إلا أن تتحكم بحواس الإنسان وطبائعه
القلب : نعم أيها العقل علينا أن نتفق لنُزيل أيُّ غشاوةٍ، وأقفال تحول بيني وبين التفقه والعلم ، وباتفاقنا نرقى بالنفس البشرية إلى الكمال والإيمان، والإبتعاد عن الشرور التي مصدرها الشيطان الذي هو في صراع مع النفس البشرية لكي يحيدها عن طريق الإيمان ، قال تعالى في سورة المطففين – الاية 14 : { كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ }، عليك أن تعلم أيضاً أُيها العقل أن مهبط الوحي كان مركزه عندي في القلب، إذ قال تعالى في سورة الشعراء – الايات [192-195] : { وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ(192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ(193)عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ(194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ(195) }
وقال تعالى أيضاً في سورة الحديد – الآية 27 :
{ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً }
العقل: إذا إتفقنا على أن نجمع ما بين الإشعاع والفكر العقلي المتمثل بالعقل وبين المعنى الوجداني في القلب، فأنت أيها القلب ستكون نافذتي إلى الخارج من حواس ومدركات وتعاملات تصدر من خلالي لكي تصل نقية صافيةً إلى النفس، قال تعالى في سورة النحل – الآية 78 :
{ وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ }
القلب : إذاً هنا نقول إننا متفقون أنه لا يمكن للإنسان أن يصل إلى الإيمان المُطلق بالله عزَّ وجلْ، إلا بتكامل العقل مع القلب وبذلك يصل إلى تخلصه من كل أدران الحياة وشهواتها، ولا يكون تطبيق ذلك إلا باتباع كتاب الله عزَّ وجلْ القرآن الكريم، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
وختاماً :
يتبين لنا أن القلب في القرآن الكريم عالم قائم بذاته، يجمع بين المعرفة العقلية والمعرفة الإلهية، يملك نافذة العقل إلى الخارج ووسائلها الحواس والمدركات من ناحية، ويملك نافذة إلى الداخل حيث تتجذَّر المعرفة الإلهية، وكما قال الإمام الغزالي : (عن طريق الوحي والإلهام، فتفيض المعرفة نوراً على العقل، وتتكامل منافذ العلم عند الإنسان المؤمن الحق، الذي ترِقُّ أمامهُ الحُجُب، ويستطيع أن يرى بعين البصيرة، ما لا يراه بالعين المجردة، ويتجاوز الواقع المادي إلى إدراك قدرة الخالق وحكمة الخلق وحقيقة الوجود اللا نهائي ) وكل هذا لا يتم إلا بالتوافق والتكامُلية بين العقل والقلب .
ومن هنا نجد أن نقطة الالتقاء الواضحة والصريحة بين العقل والقلب تأتي من خلال الآية التي أوردت ذكرها سابقاً في سورة الحج – الآية 46 في قوله تعالى:
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ }
تنتهي المناظرة ويتصافح القلب مع العقل ويتفقان على كيفية السيطرة على المواقف المختلفة ومزجهما معاً – بين القلب والعقل – بشكل تكاملي وتوفيقي ترضى عنه النفس وتكون رادعاً لوسوسات الشيطان، ففكر أيها الإنسان بعقلك واشعر بقلبك وحاول الربط بينهما، ولكن ليس على حساب أي منهما فكُل شيء محسوب ومقدرٌ بميزان، ويكون حَكَمُنا في كل منهج حياتنا القرآن الكريم وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، والتوكل على الله في كل شيء فهو العالم بالنيات
النفس : الحمدلله يا أبنائي على الإتفاق بينكم والذي ستخلصوني فيه من شرور وسوسة الشيطان، ولتكون نفسي مطمئنة وأعرف مصيري في يوم الحساب، قال تعالى في سورة الفجر – الآيات [27-33 ] :
{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ(27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً(28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي(29) وَادْخُلِي جَنَّتِي(33) }
صخر محمد حسين العزة
عمان – الأردن
7/10/2022
المنتدى العالمي للأدباء والكتاب العرب
تعليقات
إرسال تعليق