القائمة الرئيسية

الصفحات

في الزريبة الأمنية .. بقلم أ. / عبد الله سكريّة

في الزريبة الأمنية .. بقلم أ. / عبد الله سكريّة


في الزريبةِ الأمنيّةِ .. بقلم أ. / عبد الله سكريّة

في الزّريبة الأمنية ..
 بقلم أ. / عبد الله سكريّة 

في يومِ خميسٍ من شهرِ تشرين الثاني من عام 1987،كنت وابنتي الصغيرةَ زهاتَ نراجعُ درسًا أُعطيَ لها في مادّةِ العلومِ ، وكانت بعدُ ، في السادسةِ من عمرِها ، وبالقربِ منّا ، أورى لَّهبُ المدفأةِ دفءَ الغرفةِ ، وعمَّ من حولِنا سكونٌ بعد أنْ انحدرتِ الشمسُ وغابَتْ ،وأرخى الليلُ سُدولَه وقبعتِ القريةُ تحتَ ظلالِه، بوداعةٍ ليست غريبةً عمّا تُعرفُ بهِ الأريافُ في مثلِ هذه الأوقاتِ ..

ويَقرعُ جرسُ البيتِ ، وأفتحُ البابَ ،وإذا أَمامي رَجُلا أمنٍ ممّن اعْتَدْتُ على رؤيتَهم عنْد ذَهابي إلى عمَلي ، وعَودتي منه كلَّ يومٍ . كانت السّاعةُ قد قاربتْ الخامسةَ والنِّصْف ِ. وكما توقّعتُ ، ما كانا زائرَين ، بلْ كانَ عليَّ 

أنْ أرافقَهما إلى المركزِ حيثُ المعلّم ، كمَا كانوا يُسمّون رئيسَهم في العملِ، فهو يُريدُ أنْ يُقابلَني . والمعلّمُ أعرفُه ، فهو ضابطٌ برتبة ِملازمٍ 

كانَ لي معَه لقاءٌ حادٌّ ، لم يُعجبْ به ، كما لم أكنْ لأُعجبَ به أنا أيضًا لأنّه كانَ يَعرفُ آنذاك، مَنْ همْ سارِقو المَعونةِ التي جئْنا نحنُ بها ،من اتّحاد غوث الأولاد ،لنوزّعَها على أصحابها المُحتاجين، من أهلنا في المنطقة ،وقد اتّهمَنا نحن بسرقتِها ، وقد ساءَه أنْ قلتُ له ،وكانَ بِرفْقَتي آنذاك ،الطالبُ الجامعيُّ عبدُ السَّلام : إعلمْ أنّ أمّهاتِنا ما علّمْننا إلّا أنْ نكونَ أُمناءَ ،خادمين لأهلِنا ،واذْهبوا ، وفتّشوا عمّن فعل فعلتَه ،وأساءَ للأمنِ كما تدّعون .

في لقائي معَه أَبلَغَني أنْ لا علاقةَ له بهذا الاستدعاءِ ، وعليَّ أنْ أمثُلَ أمامَ "حضرةِ "الرّائدِ في مركزِه في مدينةِ بعلبكَّ . فالأمرُ إذًا أشدُّ أهميّةٍ !وعليَّ أنْ أَتركَ سيّارتي في مرْكزِ العينِ، وبِرفْقةِ عُنصرَيْن من المُخابراتِ ،أذهبُ مخفورًا إلى حيثُ يجبُ ؛ وقد أقلّتْنا سيّارةٌ شاحنةٌ مخصّصةٌ للتّهريبِ ،قادها أحدُهم ،حيث أُجلستُ في الوسَطِ ، وعلى يَميني كانَ العنصرُ الثّاني الذي راحَ يَتعرّفُ عليّ بأسئلةٍ لا تحملُ ما يُشير إلى سببِ استدعائي يومَ ذاك ،وقد حاولتُ أن أعرفَ منه شيئًا ما عن ذاك الأمرِ ، ولكنْ دونَ جَدْوى ..

وأمّا ما ساورَني من تساؤلاتٍ عمّا جرى وعمّا هو آتٍ ، فالحديثُ عنها يطولُ . وسلّمتُ أمري لله ، وترجّلتُ أمامَ مركزِ بعلبكَّ للأمنِ ، واستلَمَني أحدُ العناصرِ، وبعد أن فتّشني ،من رأسي إلى أخمصِ قدميَّ ، 

طلبَ منّي أنْ أُرافقَه لِأدْخُلَ . وإلى أَيْنَ ؟
لم يكنِ الأمرُ إذًا للقاءِ المسؤولِ ! فها أنا أدخلُ ما لا يمكنُ أن يكونَ إلّا زريبةً . 
أُغلقَ البابُ خَلفي ، وصرتُ سجينَ غرفةٍ لا تزيدُ مساحتُها عمّا يتّسعُ لثلاثةِ أو أربعةِ مساجينَ في حالاتِ الجلوسِ ، وهي تضيقُ بهم لو لجأوا إلى النّومِ ، ويقتطعُ قسمًا منها معلفٌ فيه بَقايَا مِنْ أشياءَ لم أكنْ لأستطيعَ التعرُّفَ عليها ؛ وتعرّفتُ عنْد دُخولي على رجلٍ كانَ وقفَ، وقد أَشعلَ قدّاحتَه ، ومنه عرفتُ أنه جنديٌّ لبنانيٌّ من بلدةِ شَعْثٍ البِقاعيةِ ، وأنَّه من جيشِ "العمادِ عَوْن " وكانَ بَيْنَ عَوْنٍ ، وهذا الأمنِ عداوةٌ ،عبّر عنها الطّرفانِ بحرْبٍ عسكريةٍ قاتلةٍ ، وفي الزّاويةِ التَحَفَ نائمٌ بِبطّانيّةٍ مِنْ تلكَ التي يَستعملُها الجنودُ ، ولمْ يَكُنْ ليَظْهرَ منه شيءٌ ، حتّى ولو بِحَرَكةٍ ..

وَجَلَسْتُ ،وعلى ضَوءِ القدّاحةِ ، رأيت أنّ سقفَ الزّريبةِ يكاد يُلامسُ رأسَ من يبقى واقفًا ، وأنّ على جدرانِها خطوطٌا وأشكالًا تاركةً علاماتِ من كانَ هنا .وأمّا الزّمنُ فرحتُ أُلاحقُه من خلالِ ضَوْءٍ كانت تبثُّه ساعةُ اليدِ التي كنتُ أحملُها . وبينَ وحشةِ المكانِ وثقلِ دَوْرةِ الزَّمانِ ، ومعَ الشّعورِ بالخوفِ والتّوجّسِ ،فُتحَ البابُ ،وكانَ نداءٌ ،أنْ يا سكّريةُ "تفضّلْ "! ومعَ هذا النّداء استفاقَ النّائمُ ، وقد طُلبَ منه ، في اللّحظةِ عينِها ،أن "يتفضّلَ "أيضًا . وكانتْ دهشةٌ مني أنْ رأيتُ عبدَ الحميد دندشَ ، وكان سلامٌ ، وابتسامٌ وخروجٌ لمقابلةِ المعلِّمِ ..
 ولا أُخفي على أَحَدٍ ، كيف شعرتُ براحةٍ واطمئنان ٍ، حينما خرجتُ وصعدتُ الدّرجَ الموصلَ إلى مكتب الرائد عثمان ، وهو الاسمُ الذي حُفرَ على قطعةٍ خشبيّة ٍ كانت وُضعتْ على المكتبِ قُبالة َ الزوّارِ أو المطلوبينَ ، وما إن دخلتُ حتّى قرأتُه . استقبلني من وراءِ مكتبِه مادًّا يدَه لمصافحتي :أهلًا وسهلًاٌ قال ، هل أنت مسؤولُ "اتّحادِ قوى الشعبِ العاملِ " في المنطقةِ؟ فأجبْتُه بأنْ نعمْ ، فقال : نحن والنّاصريون في جبهةٍ تقدميّةٍ واحدةٍ ،فبادرتُه وما الذي أفعلُه عندكم إذًا؟ فلم يُجبْ ، بل سألني إنْ كانْ أحدٌ من عناصرِ الأمنِ قد وجّه إليَّ إساءةً ما ، وكأنّه في ذلك يريدُ أن يؤكّدَ على حسنِ التّحالفِ ،أو ليغطّيَ بلباقةٍ صناعيةٍ اعتادَ عليها رجالُ المخابراتِ ، ليبرّروا أفعالَهم مع الآخرين ، ولا أعتقدُ أنّ هذا التّخمينَ في الحالَين كان واردًا.


وإذ لم يُجبْ على سؤالي ، كرّرَ المسؤولُ الأمنيُّ سؤالَه : إذا كنتُ قد تعرّضتُ لأيّةِ أذيّةٍ من أحدٍ ؟ ثم قالَ : يمكنُك ودندشَ المغادرةُ ..وشتّانَ ما بينَ الدُّخولِ والخروجِ ، إلى ومِنَ المراكزِ الأمنيّةِ . وباتّجاه السّوقِ الرئيسيّةِ في مدينةِ بعلبكَّ ،انطلقنا أنا وعبدُ الحميدِ ،والفاكهةُ هي المقصدُ .

وكانتْ مفاجأةٌ كبيرةٌ لكلٍّ من أخي المرحومِ يوسفَ ،و مجموعةٍ من إخوةِ النضالِ، وعلى رأسهِم الأخُ الرّاحلُ عبّاسُ زعيترَ، أن رأَوْني بأمِّ العينِ فالتًا من قبضةِ الأمنِ ؛ وجميعُهم كانوا قد أعلَنوا الاستنفارَ ، وراحوا يفتّشون في مدينةِ بعلبكَّ عمّن له الباعُ ،ويستطيعُ التّوسُّطَ وإخراجي من هذا السّجنِ . وفي سوقِ بعلبكَّ الرئيسيّةِ شرحتُ لهم ما حصلَ ،وأنْ لا حاجةَ لغيرِ الرُّجوعِ إلى البيتِ ، مع انشراحٍ وارتياحٍ بانتْ ملامحُهما على وجوهِ الجميعِ. وأينَ أنتِ يا فاكهةُ !.

وفي سيّارةِ أخي أبي علاءٍ عدْنا ، ومعنا دندشُ ، وكان حديثٌ ،وكان نقاشٌ ، ورحنا نضربُ الأخماسَ بالأسداسِ ،ونتحرّى أسبابَ الاستدعاءِ، وراح كلُّ واحدٍ يُدلي بما لدَيْه ؛ وكان لي أنْ أرى علاقةً بين استدعائي وعبدِ الحميدِ لأنه أهان حليفًا للأمنِ ينتمي إلى القوّات اللبنانيةِ ، وكانتْ هذه القوّاتُ آنذاك ، تعملُ في منطقةِ رأسِ العينِ في الفاكهة ،لتُعيدَ مياهَ الشَّفة إلى مجراها الطبيعيِّ ، وقد خرّبتْها السّيولُ ، وكان أن كُتبتْ عباراتٌ شتّامةٌ للقوّاتِ، قال لي دندشُ أنّ أحدَ أقاربي وشى للمخابراتِ هؤلاءِ ، بأنّني كنتُ وراءَ كتابتِها ، فكانَ ما كانَ .. وأيًّا تكن الأسبابُ ، ها قدْ عُدْنا ، وعَلينا أنْ نأتيَ بالسَّيَّارةِ التي تركتُها في مَرْكزِ العَيْنِ ، ولمْ أجدِ السّيارةَ ، وانْتَظَرْتُ وقتًا ليعودوا بها، وفي هذهِ الأثناءِ ،رحتُ أقولُ ما لم أكنْ لأقولَه ،لو لمْ أَعُدْ مِنْ بعلبكَّ ، وكلُّ ما انتهيتُ إليه ، أنّني رفضْتُ أنْ أَشْربَ شايًا ساخنًا كانَ قُدِّمَ لي ، وأنّ رفيقي عبدُ الحميدِ فوجىء بجرأةٍ امتلكتُها ، وأنا أتحدّث مع الضّابط الملازمِ ،وهو أمرٌ غيرُ معهودٍ في حضرةِ المخابراتِ ، ثم إنني حتّى اليومَ لم أعرفْ شيئًا عن سببِ دُخولي، ذلكَ اليومَ ،زريبتَهم ...

عبد الله سكريّة..
المنتدى العالمي للأدباء والكتاب العرب

تعليقات