القائمة الرئيسية

الصفحات

نظام الاستدلال- خطاب القناع 4 (*)

نظام الاستدلال- خطاب القناع 4 (*)

د.  نجيب الورافي 
----------
نواصل حديثنا في التداولية وتتناول ما يسمى بالإشارة والاستدلال والإشارة يعرفها التداوليون بأنها فعل يستعمله المتكلم بحيث يصوغ الكلام ليطلب من المخاطب تعريف شيء ما وتحديده، (أيضا القيام به) لدينا إحداث قول، فعل قولي لكن في نهاية المطاف ينتج عنه استعمال صيغة لفظية وعندما نعبر بصيغة (فعل)، فلا يختلطن عليكم الفعل الخاص في اللغة العربية (البنية)، الصيغة المرتبطة بزمن الحدوث (ماض ومضارع ومستقبل)، أو فعل الأمر، الفعل الكلامي، عبارة عن استعمال صيغة لفظية ايا كانت. 
عرفنا أن كل صيغة تستعمل لا لتدل على معناها الحرفي فقط أي معنى ظاهر اللفظ وانما يتم تحديد معناها نظرا إلى سياقها الذي كما قلنا يشمل سياق اللغة وظروف الخارج وشركاء الخطاب. لا نستدل على المفردة بمعناها الحرفي مباشرة وانما يرتبط إطلاقها بسياق وجودها زمانا ومكانا.
فلو قلت مثلا تعال خذ هذا (في يدي كتاب الطراز) لمتحدث يجلس امامي فلا يحتاج المخاطب إلى ذكر تسمية الكتاب، بينما لو قلت هذا الكلام لشخص في التلفون لكان ناقصا باستعمالي للفظ (هذا) فقط ولاحتجت إلى الشرح.
 عندما أخاطب شخصا موجودا في قاعة الدرس فأنا أستبدل ملفوظ عنوان الكتاب لعلم السامع به بلفظ الإشارة (هذا) ولو تحدثت تلفونيا لقلت تعال خذ كتاب الطراز وبالتالي فإن الإشارة الجسدية المصاحبة للفظ كحركة اليدين والراس والعينين.. الخ تسمى إشارات مرافقة أيضا (أدلة) عندما أتحدث بالنفي وأحرك رأسي يمنة ويسرة على اعتبار منطوق نفي فإن ذلك يعني إشارة نفي.
زميلكم صادق قد استعمل إشارة اسمه لكني قد استبدله بالامتياز فأقول: ناد لي الامتياز، بدلا عن صادق لعلم السامع المنتمي إلى بيئة الدرس أن مستواه الدراسي ممتاز وبامتلاكي للعلم هذا صرت اضع إشارة ممتاز بدلا عن اسمه في التداولية يكون إطلاق اللفظ ليشير إلى معنى يتوقف فهمه على المخاطب ووفقا لاستدلاله. حسنا الاستدلال كيف يتم؟ حين قلت مثلا هل حضر الامتياز؟ ليس وانا في سوق الربوع لكنه معروف في رداع بصادق الرقيمي بل وانا في قاعة الدرس بين طلاب شعبة اللغة التمهيدي حيث أطلق عليه اسم الامتياز استاذه أو زميله علي البخراني. أنا قصدت صادقا وبالتالي فإن ملفوظ امتياز مستعمل في غير محله تماما.
أمر آخر أنا لم اقصد بالامتياز علامة المعدل الدراسي من 90- 100 وانما اقصد طالبا عالي التحصيل (كيانا إنسانيا) وقد أخضعت هذا اللفظ لاهدافي كمتكلم، لدي اهداف على أساسها افعل القول وأطلق الصياغة لا بد أن تخضع الألفاظ لمقصدية المتحدث ولنواياه المبيتة أنا أنوي أن أقول إن الامتياز إشارة على فلان وليس الدرجة من 90 إلى 100 كيف نستدل على أن اللفظة استعملت وفقا القصدية التي أردتها وليس شيئا آخر قد يكون الامتياز تسمية للبيببسي أو البسكوت أو نوعا من العصير او لمستوى التحصيل لكنني أطلقتها وفقا لقصدية أخرى. في النهاية تقف غايات ربما استهدفت التحفيز اثيرك للحصول على الدرجة وربما لاسخر فأقول هيا اين الامتياز لانه تأخر عن الحضور أو قصر في أداء واجب ما وبالتالي فهي خاضعة لنية المتكلم أو لسياق الحديث عموما فلأنه قصر في واجبه استهدفت السخرية وإذا كان أجاد فإنني استعمله على أساس المدح والثناء وإذا كان على أساس التحفيز فإنني استهدف تحفيز الآخرين على أن يحذوا حذوه . كيف نستدل على أن اللفظة هي كما وضعها المتكلم وفهمها السامع وحدد معناها تحديدا دقيقا؟ 
هناك ما يسمى بمبدأ الملاءمة ويستند هذا المبدأ إلى قاعدة كلما ازدادت الملاءمة قل الجهد المعرفي والعكس بالملاءمة يتحقق الاستدلال المناسب ويزداد الجهد المعرفي في الكلام الادبي ويقل في الكلام المباشر نظرا إلى قلة الملاءمة لانه كلام ادبي، ولا توضع الإشارات فيه على سبيل الحقيقة وانما يدخل المجاز والرمز عاملين مهمين في استعمالنا للإشارة الأدبية.
انظر مثلا قول البردوني في رجعة الحكيم:
أنا علي وأبي زايد
خفض لنا الأعلى خذ الازيدا
طبيعي أنه علي بن زايد لكن نحن بحاجة إلى تقصي واقع هذا البيت ففي شطره الثاني ورد قوله ( خفض لنا الأعلى) انت بصفتك دارسا ما الذي يعني بعلي بن زايد هل هو الحكيم مستعملا بصفته حقيقة تاريخية تراثية حكمية ام أنه قصد شيئا آخر؟ هناك عامل من عوامل الاستدلال يسميه التداوليون النص المرافق هل قصد العلمية ام العلو والزيادة، هنا يقف جهدك كمستمع وجهدي أنا كمتكلم في تفسير استعمال الاشارتين بين العلمية والمكانة أو الرتبة هل علي اسم علم وزايد أيضا كما هما في النحو العربي.
نحن بحاجة إلى الاستدلال فما الذي يحقق لنا هذا الاستدلال؟
- الشطر الثاني.
نعم قوله خفض لنا الأعلى خذ الازيدا. هذا ما يسمى النص المرافق أحد عوامل تفسير الإشارة الموضوعة وقد يأتي في النص نفسه في جملة ما لكن لنفترض انك تدرس ديوان شعر او سورة قد لا يكون متاخما للإشارة المستعملة وانما قد يوجد في ثنايا النص كآية بعيدة ليكون أحد وسائل تماسك الخطاب أي أن يكون هناك ضامن للتفسير لتحديد الإشارة.
سبق تعريف الإشارة أنها فعل قول يستعمل المتكلم فيه صيغا لتعريف شيئ ما هل نجحت في تعريفه؟ كتعريف لفظ إنسان هل نجخت في التحديد؟ لأن الألفاظ تعرف الأشياء في الكون على أساس فعل فيه وليس وصفا له.
عن وحدة الشطرين ماذا وهل 
أفقت من سكرين كي أشهدا
عندما ابحث هذا في ضوء نص مرافق استدلالي أجده في نص آخر.
يا بنت ام الضمد قولي لنا 
أي علي سوف يخصي علي
الخطاب اعتبر أنها وحدة منقوصة لأنها غير قائمة على ركائز متينة تحفظ كيانها بقدر ما هي ضمد مآله أن ينفك في يوم من الايام. شاهد الحال أن هذا البيت هو نص مرافق وهو دليل على أن هناك بنية وعي متماسكة للخطاب ويتضمن بعدااستشرافيا أيضا. وقد يأتي النص المرافق في موضع آخر من النص نفسه أو من نص آخر وكذلك في السورة نفسها أو في سورة أخرى.
عامل الاستدلال الثاني هو البيئة المكانية للخطاب وقد مثلنا لذلك بطالب الامتياز. قد اقول لك امسك هذا أو هذا لمن (في يدي جهاز موبايل)، حين ينتمي الخطاب إلى بيئة مكانية أو مجال بصري مشترك لكن لو اني ادرس عميانا لاحتجت أن أقول لمن هذا التلفون واصفا نوعه وما ركته، نوت تي في سامسونج.. الخ لذلك فإن حاسة قد تغنيك في الفهم وقد استعمل اسم العلم والناس غائبون. اكتب رواية مثلا من ثمانين ألف كلمة ولا احد بجانبي. في الرواية التخاطب داخلي، لديك داخل النص متكلمون ومخاطبون وهم متخيلون وكذلك في القرآن الكريم مثل قصة إبراهيم وقصة الزليخا ويوسف وغيرها.
نعتبر هذه الشخصيات هي من يتحدث داخل الخطاب وليس قارئ القرآن الكريم مثلا: 
يوسف اعرض عن هذا واستغفري لذنبك معنى أنهما موجودان وهما عرضة للتبكيت على لسان العزيز فبقدر ما احتاج الى التبكيت استعمل المفردات الخاصة بذلك الله هو المتحدث لكن على ألسنة مستعملين نصيين. هذا الكلام حدث في بيئة مكانية واحدة لأن الإشارات تقتضي لو أن أحدهما غائب لا ستعمل ضمائر مناسبة للتعبير عن هذا الغياب. 
فارق بين أن استعمل الخطاب على مستوى مؤلفه وبين أن استعمله على أساس أن المتخاطبين هم أقنعة داخليون استعمل التخييل في صنعهم اتقمصهم واتحدث باسمهم واضع الإشارات المناسبة على ألسنتهم كما لاحظنا في بيت البردوني. ما الذي جعلنا نقول أنا علي؟ لانه في صدد نقد الواقع والسخرية منه. هذا هدف وضعه البردوني قبل أن يتحدث ويضع عليا بمعنى العلو وزايدا بمعنى الزيادة. 
قبلها يقول:
صف اسعد الاغنى أما شاهدوا
يوما سنانا كي يروا أسعدا
هناك منطق متعال حول الماضي كأنه يقول له فمن انت الآن؟ لا تقل لي جدي اسعد الكامل هل لديك شيى الان فوضع الإشارة علي بمعنى العلو وزايد بمعنى الزيادة. القارئ العابر قد يظن اتجاه القصد إلى اسم الحكيم ذاته لكنه بمعنى العلو وزايد بمعنى الزيادة، دليله.
يا ذيه اسمع من تقاليدنا
كل عسيب وهو من قلدا
الخطاب كله ساخر كيف تحقق هذا الاستدلال،؟ تحقق بنجاح القارئ في فهم رمزية العلو والزيادة في الملفوظين، وبغرض منجز هو التبكيت والسخرية.
أيضا ضمن عوامل الاستدلال ما يسمى بالإشارة العائدية فماذا تعني هذه الإشارة؟ ملفوظ يستعمل رابطا بين ملفوظ يتقدمه أو يليه لا سيما الاسم الظاهر. ما هي الإحالة لديكم؟
- قد تكون اسم إشارة أو ضميرا أو اسم موصول كما قد تكون داخلية وخارجية ونستعملها في الضمائر التي تشير إلى الأسماء الظاهرة وقد تستعمل جملة لإيضاح جملة ونستغني عن الضمير .
في دراستنا قد يواجهنا الخلط في فهم ماهية السياق وتمييزه وايضا القصدية وهي أهم منغص لدارس التداولية لو طبقنا السياق في سورة يوسف نجد أن الخطاب استعمل اسم العلم والفعل الكلامي يوسف اعرض عن هذا واستغفري لذنبك ويطلق على فعل اعرض واستغفري فعلي كلام غير مباشرين وهو ما يندرج في البلاغة العربية ضمن بلاغة الإنشاء. ووفقا لنظرية اوستين في الفعل الكلامي يمكن أن يتضمن الفعلان السابقان فعلين مباشرين: آمرك أن تعرض فيعرض وأن تستغفري فتستغفر (إنجاز). بغرض الزجر، فلو طلبت هذا البديل على سبيل الرجاء فأقول لأستاذي علمني فإني استهدف الدعاء والرجاء.
كيف نعرف السياق الخارجي للآية السابقة هل هو الأحداث والوقائع، جملة الظروف الموضوعية في زمن يوسف، حجرة في قصر العزيز، أم هو زمن الوحي القرآني وعصر النبوة؟ زمن الخطاب يرتبط بزمن المتلفظ. التداوليون يقولون إن المقصود هو زمن الملفوظ هذه مسائل انت بحاجة إلى التمييز والتفريق بينها لا بد أن نعالج السياق في الخطاب وشركاء الخطاب نربط النص القرآني بالمتكلم الأعلى ثم بشركاء الخطاب الداخليين وعلى أساسه نحدد الإشارة الموضوعة. الله هو المتحدث وورود التهكم على لسان العزيز بينما يوسف بريء في نظر الله والناس. هذه يسميها فإن دايك بمتواليات البنيات الكلية يرى المؤلف أن الخطاب يسير من الكل إلى الجزء يصل إلى إشارة المفردة وينتهي إلى خطاب قول كلي.
 عندما نتناول السياق في إطار الاستدلال نربطه بصانع الخطاب الاعلى ورتبته سواء المتكلم الخارجي ام السياقي النصي كرتبة العزيز المؤثرة في خطابه. هذه المسلمات كلها تدرس بدء بالسياق الأقل وتنتهي بالسياق الأغلى أو الأكبر.
---------
 (*) نص المحاضرة الرابعة، مقرر القضايا البلاغية القديمة والمعاصرة، القيتها على طلبة الدراسات العليا الماجستير، شعبة اللغة، قسم اللغة العربية، كلية الآداب جامعة ذمار، الفصل الثاني ، العام الجامعي 2016، 2017,
-----------
الإحالات 
جورج يول التداولية
فان دايك النص والسياق 
جون اوستين نظرية أفعال الكلام
مسعود صحراوي التداولية عند العلماء العرب
البردوني الأعمال الشعرية
المنتدى العالمي للأدباء والكتاب العرب

تعليقات