القائمة الرئيسية

الصفحات

قراءة أدبية لقصة الأديب والكاتب التونسي فتحي بوصيدة

قراءة أدبية لقصة الأديب والكاتب التونسي فتحي بوصيدة

قراءة أدبية لقصة الأديب والكاتب التونسي فتحي بوصيدة

بقلم الكاتب اليمني 
نجيب صالح طه .

أولا: النص سخرية 

سكنني الحزن...وانتابتني حالات صرع ...
ناولني الدكتور علبة دواء على كل حبة اسم بلد عربي...بعد كلّ وجبة حبة...
بدأت أتعافى...آخر دولة كانت على الريق، صرت أضحك بشكل هستيريّ، كان العالم مبتورا.
فتحي بوصيدة - تونس.

ثانيا : الجو العام للنص: 

أطعلت على كثير من كتابات الأديب التونسي/ فتحي بوصيدة، القصصية القصيرة جدا، وهو من الكتاب والأدباء البارزين في هذا الفن، وله حضور قوي في الساحة الأدبية العربية يتجاوز مستوى الكتابة والتحكيم، للتأليف، لذلك نحن أمام كاتب مخضرم، وإن بدت قصته تلك ،ذات الرائحة القومية العربية الناقدة والساخرة، من أوضاع أمتنا العربية ،المزرية والمخجلة، قصة عادية وبلغة سهلة، إلا أنها استثارت فضولي النقدي، وبشكل أزاحت فيه كل الأولويات لتكون أولا!

ثالثا : الشرح الإجمالي : 

يسخر الكاتب من الوضع العربي الراهن، وما فيه من ضعف وهوان واستكانة، وانقسامات، وفي نفس الوقت استقواء، على الشعوب واحتكار للسلطة، وسياسة التجويع تحديدا لشعوبها، على الرغم من غنى أراضيهم، وامتلائها بالثروات، ويربط ذلك بالقضية الفلسطينة في ظل التحولات السيئة الحالية،أو القادمة التي ستبقى مؤثرة  على العالم المقطوع عن القضية  الفسلطينية على وجه مخصوص ، كل ذلك قاله الكاتب ولكن بطريقة القصة القصيرة جدا! 

سخرية.
تلك اللفظة، عنوان القصة..
 تتماهى وبصورة مباشرة مع محتوى القصة، وقد تبدو فاضحة لها، وكاشفة لمحتواها، فالكاتب يسخر ويحتقر  الوضع العربي عامة، وخلف سخريته المباشرة سخرية أخرى من العالم المبتور، وهو  العالم القوي المكتمل أصلا في قوته وقدراته الاستعمارية البغيضة، التي في النهاية لن تحقق ،لاعدلا، ولا سلاما في العالم كله،ولذلك سيبقى الصراع، فانقطاعه العقيم عن إحلال السلام في العالم العربي مبتورا أيضا،، فما جدوى من رجل قوي أعرج أو عقيم أو مبتور الأطراف مهما كان قويا...!!
وتخريجي هذا لا يلغي عدم قناعتي العلمية، بأن العنوان كان مباشرا!

"سكنني الحزن"
عبارة توحي بالسطيرة وديمومة الحزن وهو اللفظ الجامع للألم والقهر والحسرة والكبت...
واختياره للحزن عوضا عن أي مترادفات أخرى، براعة في استقصاء المعاني الدالة عليه في لفظه العام، فالحُزْن أو الحَزَن، هو ما يمتن الله به على عباده الصالحين المصلحين بمنعه ونفيه عنهم في آيات كثيرة في القرآن الكريم المقترنة دوما بالخوف ..
( فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ).
ولست هنا أشير لوجود تناص قرآني، وإنما استدل بذلك على حسن اختيار لفظة الحزن، وجعل الجسد مكان احتواء له
والذي سكنه كروح شريرة طويلة الإقامة!

"انتابتني حالات صرع"
( سكنتني،  انتابتني)، زمن القصة هنا الماضي المستمر، والمضارع المستمر أيضا ( بدأت أتعافى، صرت أضحك ...ثم الماضي المجرد، كان العالم مبتورا ).
فهو تنقل وتنوع زمني محدد، وببراعة حافظت على نوعيته!
 كدلالة على الاستغراق في الزمن الماضي والحاضر المستمر المناسب لفكرة وموضوع القصة،  فديمومة الحزن الذي سكنه، يمتد من الماضي إلى الحاضر، وبالتالي تسببت بحالات صرع مختلفة ومتعددة ،وفقا للبعد الكوني الإنساني العربي الذي جاء على لسان الكاتب...
ولست أدري هل الكاتب على دارية مسبقة بما صنعه هنا،أم أن ملكته اللغوية والأدبية اقتادته لأن يقول ذلك ..!؟
أيا كان تبقى القصة في تقديري أكثر من رااائعة!

فالصرع في أبسط تعريف له:

نشاط كهربائي زائد وغير طبيعي يؤثر على الدماغ،محدثا اضطرابات في وظائف المخ ، تترجم عادة بصورة تشنجات وغياب بل وفقدان للوعي، وهنا نجد حسن التوظيف للكلمات والألفاظ على المعاني المرادة، بما وأنه يسخر من حكام العرب، وليس من دولهم كما يظهر، فهناك حذف مضمر، وفشلهم في الحكم والإدارة والتوحد والنهوض، بشعوبهم بإيحاء ملموس لخلل ما أصاب عقولهم وتفكيرهم، وأفقدهم الوعي!
( حالات صرع).

نكرة أضيفت لنكرة لتفيد العموم، وللتعبير عن مدى ما وصل إليه العربي من الألم والحزن، بمبالغة أدبية شملت كل أنواع الصرع، وفي نفس الوقت خصصت ( الصرع البطني)، كحالة استثنائية تفهم من السياق بدلالة ذكر الدواء بعد الوجبات، ومن هنا جذبتني تلك القصة بداية، وأحدثت لي حالة من العصف الذهني كلما قرأتها!

فالصرع أنواع :

صرع ليلي
صرع صامت
صرع كلي
صرع بطني
صرع نومي
صرع شيطاني....إلخ
كلها داخلة في عموم تلك الإضاقة المنكرة..!
وهنا جانب من جوانب التكثيف الذي من معانيه، الاستغراق والشمول.!

"ناولني الدكتور علبة دواء" 
هو أي الدكتور من ناوله، والدكتور هنا إشارة للنخب عامة، ممن نناقش معهم وضعنا العربي، فيضرب لك الأمثال التاريخية البطولية القديمة،أو الحديثة المشرفة وإن كانت قليلة، إذ أنه لو قال مثلا:  ناولني الطبيب علبة دواء" لا ضطرب المعنى وأصبح على حقيقته ويحتاج لتأويلات وتخريجات السريالية ربما، لكنه قال : الدكتور...
وهنا احتمالية السخرية في جعل كل حبة،باسم دولة عربية على حدة، ووصفه له الدواء بحبة بعد كل وجبة أمر مستقر ومقبول جدا...
هل يريد الكاتب أن يقول لنا: 
أن العرب مازالوا بين الداء ،والدواء ،والغذاء فقط، وأن هذا هو مستوى طموح القادة،ونخب الشعوب الفكرية والثقافية، وأنهم عجزوا حتى عن توفير ذلك؟ 

- في اعتقادي نعم ذلك ما أراده.
وإن كان قد تعاطها لفترة من فترات التاريخ، وبدأ يشعر بالتعافي... كانتصار مصر على اسرائيل حديثا، أو كتلك العلامات الفارقة في تاريخ أمة بدأ يسابقه النسيان، إلا أنه عاد مجددا لحالات الصرع المتمثل بتلك الهيستريا المتشنجة الفاقدة للوعي، من منظور ساخر عام، بإيحاء قوي عن الفرقة والانقسامات العربية ( كل حبة اسم بلد عربي). 
بينما في الحقية هي الداء نفسه يا دكتور!
هي الداء الزلاقي - مثلا - الناتج عن تعرض العربي بصفة عامة لمادة(الغلوتين)، 
الناتجة عن أكل القمح والشعير غالبا مما سبب سوء التغذية فأثرت على عمل الدماغ العربي! 
بعد كل  وجبة
دالة على الاستغراق في الشبع القيادي،والتجويع الشعبي وهذا ما فهمته من دلالات السياق... 
- متحاملا على أحد أنواع الصرع وهو الصرع البطني...!
بما وأن هناك دواء، ووجبات، وهنا كثافة في السخرية :
وهو مرض نادر جدا جدا، حسب ما تقوله كتب الطب النفسي ويعرف بزيادة كهرباء في الأمعاء، ووجع غير مبرر ولا تعرف أسبابه غالبا، يصاحبه صداع وتشنجات تؤثر على وظائف المخ، وتفقده الوعي، ولم يعد هنا نادرا بل صار النادر عدم وجوده إمعانا وزيادة في السخرية، بناء على معطيات الواقع!
إذن مشكلتنا  في بطوننا وعقولنا نحن العرب ونفتقد للوعي واتزان وظائف المخ، لكنها  جاءت بلسان / بوصيدة في قصة علمية وردت فيها مصطلحات كثيرة بترابط موضوعي محكم، وبسخرية كاتب يجيد ما يفعل!
قد يقول قائل وكيف يدخل الصرع الشيطاني في عموم تنكيره الذي ذكرت؟

أقول له، مختزل في قوله ( يكسنني)، والأرواح الشريرة التي تسبب الصرع _كما يقال_تسكن المخ وتعبث بالجسد وتغيبه  الوعي، وكأن ذلك ما يحدث للعرب!
"آخر حبة كانت على الريق"
يا لهذا الترميز  الرائع، لم يجد بعدها أي وجبة كدلالة تجويع عام، فابتلعها على الريق، والريق يكون بعد صحو من نوم، لا صحو من غفلة!
هناك تجويع مفتعل فعلا!
كم راقت لي تلك العبارة!
والمعنية هنا غالبا فلسطين الحبيبة وما استجد من مظاهر التفريط والتخلي والتطبيع والتنازل،عن قضية الأمة المصيرية، التي جعلت دواء الدكتور المطمئن مجرد داء أشد وأكبر!
 أصابه بموجة هيستيرية ضاحكة، وهي نوع من أنواع الصرع أيضا، لكنه هنا صرح بفقدانه للوعي، وخروجه عن الاتزان الشعوري، فقدان الحواس، إلا من تذكره أن العالم بأسره كان مقطوعا، عن إنصاف القضية والعرب عامة،وكل أفكاره عقيمة في إحلال السلام مذكية لجنون الإجرام المحبط والمخيب للإنسانية، وسيبقى كذلك مقطوعا عنه السلام وإن لم يشعر بكونه مقطوع الأطراف...!
وستبقى تلك الضحكة الهيستيرية الساخرة، مالم تكن هنا عدالة، فسيبقى العالم مبتورا، معيبا، رآه الكاتب بظاهرة " ديجافوا" - ربما - والتي قد ترى أماكنا لم يسبق للمصاب بالصرع وحده معرفتها أو زيارتها، ترابط موضوعي عجيب من البداية حتى النهاية في هذه القصة العلمية الساخرة والهادفة، والتي لم تغلق قراءتي المتواضعة أبواب التأويلات الأخرى بالطبع.! 
تحياتي للكاتب، متمنيا له المزيد، من التقدم، والنجاح، والألق في سماء الأدب  العربي.
أ/ نجيب صالح طه ( أمير البؤساء) - اليمن.
المنتدى العالمي للأدباء والكتاب العرب

تعليقات