خــنــســاوات فــلــســطــيــن
صخر محمد العزة
من إعجاز عظَمةِ خلق الله ، هو خلق الإنسان وتكونه في رحِمِ أمه ، بداية من نُطفة ثُمَّ علقةٍ ومضغة ، ومن ثَمَّ عِظاماً ، ثُمَّ يكسوها لحماً ، وينبت له الشعر ، وأطوار هذا الخلق تمكث تسعة أشهر في رحِم الأم ، ووليدها يتغذى ويأكل ويشرب ويعيش دورة حياته ، إلى أن يخرج من ظلمات الرحم إلى عالم النور إلى الدنيا ، ليُكمل مسيرة حياته ، قال تعالى في سورة الإنسان – الآية 2 : { إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا } ، ولكن لا تنتهي هذه المرحلة بعد الولادة فتبقى الأم بإرتباطها مع إبنها إرتباطاً باطنياً ، وهو قد انفصل جسدياً عنها بانقطاع الحبل السُري الذي يستمدُ بواسطته غذائه من أمه ، قال تعالى في سورة لُقمان – الآية 14 : { وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ }، ولكنه بعد خروجه يرتبط معها روحانياً ، فالأم كالشجرة السامقة التي تتفرع منها الأغصان وتمتد إلى الأرض لتتفرع منها بذورٌ صالحة تبقى ترعاها ، وتبقى روحها مُتحدة مع أبنائها مهما ابتعدوا عنها أو فارقوها ، فالأم لها قلبان وجسدان وحياتان ، ولهذا فإن الأم مُستعدةً أن تُقدم روحها فداءاً لأبناءها ، لأن إبنها هو الدم الذي يجري في عروقها ، وهو الهواء الذي تتنفسه ، فلو سالت من دمه قطرة لتفجرت في قلبها قطرات ، ولو غاب عن بصرها لحظة فستبقى روحها مُحلقة وحارسةً له أينما حلَّ وارتحل ، ولكن كيف يكون صبرها وجلدها عند فُراقه الأبدي لها بانتقاله إلى الرفيق الأعلى ؟
ولهذا فإن الله عزَّ وجل كرَّم الأم وجعل الجنة تحت أقدامها لعلو شأنها ومنزلتها ، لما تعانيه في إنشاء وتربية أبنائها ، ولكن ما أود أن أطرحه وأعرضه في مقالي هذا عن أمهات هن حالة فريدة عن كُل الأمهات في هذا الكون ، إلى أمهات يودعن أبناءهن بالزغاريد وتوزيع الحلوى عندما يرتقوا شهداء من أجل وطنهم ودينهم ومقدساتهم ، ونرى هؤلاء النساء يشاركن رفاق أبنائهن في حمل نعوشهم ، فهن حالة فريدة لَسْنَ ككل الأمهات ، إنهم أجمل الأمهات وأعظم الأمهات ، إنهن خنساوات فلسطين ، ونستذكر قصيدة الشاعر حسن عبدالله التي غناها المغنى الرائع مارسيل خليفة ويقول في جزء منها :
أجمل الأمهات التي انتظرت ابنها
أجمل الأمهات التي انتظرته
فعاد مستشهدا
فبكت دمعتين ووردة
ولم تنزو في ثياب الحداد
فما أعظمك أيتها الخنساء الفلسطينية التي تُجهز إبنها وتحثَّهُ على الجهاد وتقدمه فداءاً للوطن ومقدساته ، ويخرج إلى ساحة النضال لُيجابه أعتى وأبغض إحتلال ، ليكون هذا الإبن مُطارداً فجريحاً ، ومن ثمَّ أسيراً أو شهيداً ، وفي كل الحالات تبقى صابرة وثابتة ، فالأمهات الفلسطينيات هن مدرسة في الصبر والثبات والصمود ، وهن أقوى من كُل الصدمات ولا يهُزُّهنَّ ممارسات الإحتلال ، فهن مصنع الرجال ومصنع الأبطال ، ولله درُّكُن يا خنساوات فلسطين وستبقى تتفاخرُ بكُنَّ الأجيال جيلاً بعد جيل ، وحريٌ بنا أن نذكر ونستعرض بعض هؤلاء الحرائر والماجدات فلن ننسى الأم المجاهدة البطلة رحمها الله مريم محمد يوسف محيسن ( أم نضال فرحات ) والتي توفيت في عام 2013م وهي داعية إسلامية ، وقيادية من حركة حماس التي استشهد ثلاثة من أبنائها وحولت بيتها مأوىً للمجاهدين ، والذي استشهد فيه القائد عماد عقل الذي كان على رأس قائمة المطلوبين حياً أو ميتاً للإحتلال الصهيوني وأخطرهم عليه ، وأيضاً نتذكر المجاهدة البطلة فاطمة الجزار ( أم رضوان ) رحمها الله والتي توفيت عام 2016م وقد قدمت خمسةً من أبنائها شهداء وثلاثة من أحفادها وشقيقها وصهرها وكانوا جميعاً ينتمون إلى حركة الجهاد الإسلامي ، وأخيراً الحاجة لطيفة محمد ناجي أبو حميد ( أم ناصر ) أبو حميد الذي قضى في سجون الإحتلال ما يُقارب تسعةٌ وثلاثين عاماً وارتقى شهيداً بتاريخ 20 / 11 /2022 بسبب الإهمال المتعمد لحالته الصحية لأنه كان يُعاني من السرطان ، وقد سبقه في الشهادة أخوه عبدالمنعم ولأم ناصر ثلاثة أبناء أسرى يقبعون في سجون الإحتلال ، وقد هُدِم بيتها خمس مرات ، وهي ترفض أن يواسيها أحد عما يقترفه الإحتلال وتقول بعد هدم منزلها : ( أفتخر بأنني أم الشهداء وأم الأسرى ، هم يهدمون البيت ، لكن لن يهدوا حيلي ، الحيل قوي وما بينهد ، وسأعيد بناء ما هدموه ، وقد سبق أن هُدم بيتها أربع مرات في الأعوام(1990 ، 1994 ، 2003 ، 2018 والمرة الخامسة في عام 2019 ) ولن ننسى أن نذكر أمهات الأبطال إبراهيم النابلسي ، وأشرف نعالوة وصالح البرغوثي ، وعبدالله فارس ) اللواتي حملن نعوش أبنائهُنَّ على أكتافهن مع رفاقهم ، وما هؤلاء الخنساوات الماجدات ، إلا نزرٌ يسير من قائمة تطول من بطولات نساء فلسطين ، اللواتي يقفن جنباً إلى جنب مع رجالات وأبطال فلسطين ، فهنَّ شقائق الرجال ومصانع البطولة والفداء .
وأخيراً أقول تعجز الكلمات مهما نظمنا وقلنا في وصفهن ، فهن كما يحترفن الأمومة يحترفن المقاومة ، ويُربين أبنائهن على حب فلسطين ويُرضعنهم حليب الفداء والشرف والقوة والثبات ، وعندما يستشهدوا تودعهم بالزغاريد ، التي هي بلسم للجرح وشمعة تضيء قلبها معلنة أنه لا للإنكسار ، وحافزٌ لبقية الأمهات التي يجهزن أبنائهن على نفس طريق التحرير ، الذي لا يُعمدُ إلا بالدم ، وهو جسر العودة ، وزغرودتها معلنة لا للإنكسار ، فانكسارنا – إنكسارٌ للوطن ، فتحية إكبار وعتزاز لكن يا أقمار فلسطين يا خنساوات هذا الوطن الحبيب يا من حملتن أبناءكن مرتين – مرة وليداً في أرحامكن وأخرى شهيداً على أكتافكن عندما ارتقوا شهداء ليزفوا إلى جنان الخُلد ، فجسدتن أعظم آيات النضال بإنشائكن جيلاً يقف في وجه الظلم ويجابه المحتل ، ويصنع من دمائه قنديلاً يضيء درب الحرية ، ومن أجسادهم الطاهرة جسور عبور نحو الجنة ، رافضين للتخاذل والذل ، ونقول في هؤلاء الحرائر- الخنساوات وأبنائهن البررة أبيات من قصيدة ناديا بوغرارة :
بُشراكِ يا أمَّ الشَّهيدِ تَبَسّمي
فالُّصبحُ مِنْ حزْنِ الحَرائر قدْ دَنا
يَسْقي الشَّهيدُ بِروحِهِ نَبْتَ الكرامَةِ
كَيْ يَطيبَ لكِ الجَنى
يا أمُّ لا تَأسَيْ عليْهِ
أما رَأَيْتِ النّور في وَجناتِه
والسَّعْدُ يَرْقُصُ بيْنَ عيْنَيْهِ ابْتِهاجا، والهنا؟؟
بُشْراكِ يا أمَّ الشَّهيدِ
تَحَلَّقتْ حورُ الجِنان فَزَغْرِدي،
زفِّي حَبيبَك للخُلود وَرَدِّدي
أمُّ العَريس أنا ... أنا
صخر محمد حسين العزة
عمان – الأردن
23/12/2022
المنتدى العالمي للأدباء والكتاب العرب
تعليقات
إرسال تعليق