الابتكار الفني في أفكار الصور الشعرية ، كيف يتحقق؟
الباحثة/ ثناء حاج صالح
أصدقائي الشعراء!
.
مهما أبدعتم في تقليد الشعراء السابقين فإنكم لن تنالوا المجد إلا باهتمامكم بمسألة الخلق والابتكار الفني في الصور الشعرية .
والابتكار الفني في الشعر لا يأتي عن طريق ابتكار المعاني؛ فالمعاني قديمة وهي ،،مطروحة على الطريق،، كما قال الجاحظ. ولكنه يأتي من ابتكار الأفكار الشعرية، والتي تحتاج إلى التنقيب عنها واكتشافها. وهي الموضوع الحقيقي للابتكار الفني في الصورة الشعرية .
.
لإيضاح هذه الفكرة، دعونا نطرح مثالا :
.
يقول المتنبي :
.
أَدَرنَا عُيونًا حائِراتٍ كَأَنَّها
مُرَكَّبَةٌ أَحداقُها فَوقَ زِئبَقٍ
.
المعنى في هذا البيت يتمثل في وصف حيرة الحركة في عيون العشّاق عند الوداع . سواء أكانت الحركة الحائرة بسبب كثرة الدموع التي تعيق النظر، أو بسبب تقليب النظر ، تارة إلى الأحباء المودّعين، وتارة أخرى إلى العذَال ( كما يقول المعري في شرحه لهذا البيت ).
.
ولكن خلافا للمعنى المطروق فإن فكرة الصورة الشعرية في البيت مبتكرة حقا، ولم أقرأها عند شاعر قديم آخر غير المتنبي .
وسر الابتكار في هذه الصورة هو أن المتنبي قد جاء بلفظة جديدة لم يلتفت إليها سواه ، وقام بتوظيفها . وهي لفظة (الزئبق) التي بنى على خصائصها الفيزيائية صورته الشعرية؛ فتشبيهه بياض العين بالزئبق غير المستقر كونه سائلا معدنيا أتاح له أن يكون مقنعا في تصوير حركة الأحداق المهتزة دائبة الحركة؛ بسبب حيرتها في لحظات الوداع.
.
مثال آخر:
.
يقول نزار قباني :
.
عيـــــنـــان ســــوداوان في حـــجريهــما
تـــتــــوالــــد الأبــــــعــــاد مـــــن أبــــعـــاد
.
ومعنى هذا البيت أيضا مألوف ومعروف وقديم ويتمثل بوصف اتساع العيون، ومن الملاحظ أن اللفظة التي بنى الشاعر صورته الشعرية حسب خصائصها وهي لفظة (حجريهما ) هي لفظة قديمة أيضا وكثير من الشعراء سبقوه إليها .
.
ولكن الابتكار الفني هنا يتمثل بأن القباني قد اكتشف علاقة بيانية جديدة بين حجري العينين من جهة، وفكرة الاتساع من جهة أخرى . وهذه العلاقة تتمثل بتوالد الأبعاد من الأبعاد .
وفكرة توالد الأبعاد في حجري العينين فكرة حديثة تماما . و تعود في تأصيلها إلى الاكتشافات العلمية الفلكية، التي قررت بأن الكون بكل ما فيه من أجرام سماوية آخذ في الاتساع، عبر تمدد أبعاده (مع أن الأصل العلمي لهذه الحقيقة موجود في القرآن وسابق للاكشافات الحديثة ) .
لكن ما يهمنا هنا هو ابتكار دلالات جديدة، من خلال اكتشاف علاقات بيانية جديدة، يمكن أن تربط بين الألفاظ القديمة المتداولة والمعاني المتداولة (مثل حجري العيني وفكرة الاتساع في بيت القباني ) .
.
الخلاصة :
.
الابتكار الفني في أفكار الصور الشعرية يتحقق على الأقل بطريقتين :
الأولى :البحث والتنقيب عن ألفاظ جديدة لم يستخدمها الشعراء من قبل لتوظيفها في صور شعرية مبتكرة .
.
الثانية: اكتشاف علاقات بيانية جديدة بين الألفاظ المستخدمة قديما لإنتاج دلالات مبتكرة .
.
ثناء حاج صالح
المنتدى العالمي للأدباء والكتاب العرب
تعليقات
إرسال تعليق