نقد النقد ( ولا تبخسوا الناس أشياءهم )
. الباحثة / ثناء حاج صالح
تتمة الرد على بعض المغالطات النقدية التي جاءت في القراءة النقدية التقويمية لقصيدة الشاعر أنس الدغيم ، والتي قدَّمها الناقد أبو قيس محمد رشيد
.
الجزء الثاني
.
2- مغالطة تقسيم نص القصيدة إلى قسمين اثنين فقط
.
قسم أبو قيس القصيدة (وشيتها ذهبا ) إلى قسمين وقال في ذلك (( القسم الأول ويمتد على مدى 20 بيتا ، يتحدث فيه الشاعر عن المقام النبوي وفيه جملة الوصف التي رمى بها صاحب النص إلى المديح النبوي والقسم الثاني يتحدث عن الفخر ويمتد ما بين البيتين 21- 42 ).
ثم ادعى عدم وجود التئام والتحام ومناسبة بين أقسام القصيدة الرئيسة من جهة ، وبين أبياتها المتوالية من جهة أخرى.
.
الرد العلمي على هذه المغالطة حسب المنهج البنيوي:
.
تقسيم نص القصيدة إلى أقسام رئيسة ينبغي أن يكون دقيقا.
والمعيار فيه يتبع النهج المتّبَع في تسلسل ظهور الأفكار الرئيسة للقصيدة، والتي ينتظم تحت كل منها عدد من الأبيات التي تتسق بأفكارها الجزئية مع غرض الفكرة الرئيسة نفسها، حتى ولو جاء بعض هذه الأبيات منفصلا عمّا قبله؛ أي دون تتابع في المكان، بسبب استطراد الشاعر وانتقاله إلى فكرة رئيسة أخرى ثم عودته لاستكمال الفكرة السابقة من جديد بعد عدة أبيات ، ولا ضير في ذلك من الناحية الفنية ، لأن الاستطراد في الشعر أمر مقبول ، ويمارسه الشعراء منذ العصر الجاهلي، ولا يؤخّذ عليهم.
.
ونحن ننظر إلى الأفكار الرئيسة فقط، وهي ما نسميه (بالأنساق البنيوية ) ونصنّف الأبيات حسب انتمائها لهذه الأفكار ، فنسمي كل مجموعة من الأبيات التي تتسق مع بعضها ومع فكرة رئيسة معينة بالنسق البنيوي .
وفي هذه القصيدة نجد الشاعر رتّب الأفكار الرئيسة في خمسة أنساق بنيوية جاءت مترابطة ومتسلسلة منطقيا حسب ظهورها في النص ، بحيث يقود بعضها إلى بعضها الآخر :
.
النسق الأول، ويتحدث فيه الشاعر عن عنايته بقصائده واحتياجها لمصادر الإلهام.ث، و يبدأ من البيت الأول وينتهي عند نهاية البيت السادس ، والضمير في (وشيتها ، كأسها ، محاسنها ، لها) وكل من هذه الضمائر يعود على (قصائده) عامة وليس على هذه القصيدة فقط دون غيرها (كما يظن أبو قيس ). والدليل على ذلك هو صيغة الجمع التي استخدمها الشاعر (القاصرات الطرف ) ( لو لمستَ قصائدي ) (سقيا لزهر قصائدي ) ( فالتمس لخواطري ) .
فهذه الجموع كلها تنفي عن الشاعر كونه بدأ قصيدته بامتداحها ( كما اتّهمه أبو قيس ) وهو ما لا يفعله عاقل.
وما كان ينبغي إهمال صيغة الجمع في الاستدلال على ما يعود عليه الضمير. لأن الخطأ في تقدير الضمير يقود إلى الخطأ في تحليل المعاني . وهذا ما حصل بالفعل.
.
النسق الأول:
.وشيتها ذهبا وراق الماء
في كأسها فتسابقَ النّدماءُ
رقّتْ محاسنُها فلا هي أحرفٌ
تُتلى و لا هي غادةٌ صهباءُ
القاصراتُ الطّرفِ من خَفَرٍ لها
دِيَمٌ و أنت لمائهنّ إناءُ
يوشينَ بالمعنى و يمسكُ بعضها
خجلاً فلا ألفٌ يُرى أو باءُ
يا ماءَ بدرٍ لو لمستَ قصائدي
سُقيا لزهر قصائدي يا ماءُ
آنستُ نارَكَ فالتمسْ لخواطري
قبساً يضيءُ القلبَ يا سيناءُ
.
النسق الثاني ينتقل فيه الشاعر للحديث عن علاقته بالنبي عليه الصلاة والسلام عبر الأبيات السابع والثامن ويكمله في الأبيات12- 14 ضمنا
.
النسق الثالث ينتقل فيه الشاعر من(الخاص إلى العام) فيتحدث عن فشل الشعراء عامة بإيفاء النبي عليه الصلاة والسلام حقه من المديح.وهذا يستغرق ما بين البيت التاسع وحتى نهاية البيت الحادي عشر.
.
النسق الرابع يتحدث عن الإساءة التي تعرّض لها النبي الأعظم عليه الصلاة والسلام ما بين البيتين 15 -20
.
النسق الخامس يأتي ردا على الإساءة بعد ذكر سببها ويأتي الرد المنطقي عبر الفخر بالمقاومة المعاصرة و بأمجاد المسلمين التاريخية السالفة.
.
فانظر إلى هذا التسلسل المنطقي :
الحديث عن قصائد الشاعر في المديح يقود إلى الحديث عن احتياجها لمصادر الإلهام وهذا يقود إلى الحديث عن محبة الشاعر النبي وتعلقه به كشاعر ، وهذا يقود إلى الحديث عن فشل الشعر والشعراء عامة في إيفائه حقه في محاولات المديح. وكل هذا يأتي تمهيدا ضروريا قبل الحديث عن الإساءة لأن هذا كله يبين مكانة النبي المساء إليه عليه الصلاة والسلام ، وهذا يقود لتحليل سبب الإساءة ثم الرد عليها بالفخر بأمجاد المسلمين التي يتخوف المسيئون من تكرارها فيسيئون.
.
فموضوع القصيدة الرئيس هو الدفاع عن النبي عليه الصلاة والسلام وليس المديح ( كما جاء في تحليل أبي قيس للقصيدة ) وإن كان المديح النبوي ضروريا للدفاع عن النبي -عليه الصلاة والسلام -ولا يتم الدفاع بالاستغناء عن المديح. ولو لم يتعرض الشاعر للمديح لكان نصه ناقصا من الناحية الفنية والمعنوية .
.
لكن هل يحق للشاعر أن يعدّد أغراض القصيدة عندما يتناول فيها المديح النبوي ؟ وهل يحق له التأخر في البدء بالمديح ؟ هذا يقودنا لإيضاح المغالطة الثانية وهي :
.
3- مغالطة القول بوجوب إخلاص قصيدة المديح لغرض المديح النبوي فقط وعدم تأخير المديح.
.
• بدءا من قصيدة الأعشى وهي أول قصيدة مديح نبوي في الشعر العربي على الإطلاق نجد الشاعر قد عدّد أغراض القصيدة إذ قدّم ومهَّد بعشرة أبيات مختلفة الأغراض تحدث فيها عن تجاربه في الحياة وعن ندمه على شعر المديح الذي قاله طلبا للمال ثم تحدّث عن ناقته ،حتى وصل إلى المديح بعد عشرة أبيات .
.
• وكذلك فإن كعب بن زهير رضي الله عنه بدأ قصيدته البردة (بانت سعاد ) بغرض الغزل ، فتغزّل بسعاد ثم انتقل إلى وصف ناقته تمهيدا إلى الوصول إلى غرض المديح الذي جاء متأخرا في القصيدة بعد 38 بيتا.
.
• وبردة البوصيري ابتدأها بأربعة أبيات غزلية تحدث فيها عن آلام الهوى العذري ثم انتقل إلى الوعظ فتحدث عن مجاهدة النفس في أمر الهوى حتى وصل إلى المديح في البيت العاشر .
.
* إذن فليس من الضروري إخلاص القصيدة للمديح النبوي ولا بأس بالتمهيد للمديح وإن تأخر . ولا ينبغي أن يؤخذ هذا على الشعراء.
.
4- مغالطة الخطأ في ذكر الخنساء وعدم مناسبته للسياق
.
استنكر أبو قيس على الشاعر ذكره للخنساء في قصيدته عندما قال:
.
فرجالُنا عند المعارك عامرٌ
و نساؤنا عندّ اللّقا خنساءُ
.
وجاء تحليل أبي قيس للبيت في غاية الإجحاف عندما تحدث عن الخنساء بكلام لم ينصفها فيه ، ومن ضمن ذلك وصفه للخنساء بأنها امرأة رجلة وليست ذات جمال، والرجل لا يحب أن يلتقي بمن كانت مثلها . عدا عن أنه لم ينصف البيت في استحقاق و صحة ذكر الخنساء ،
.
وردّا على هذا أقول :
.
أما ذكر الخنساء عند اللقاء (الحرب ) فمناسبته صحيحة جدا، وتتمثل بكون الخنساء الأم المسلمة مثالا يُحتذى في الثبات لكل النساء . فقد شاركت الخنساء مع أبنائهـا الأربعة في معركة القادسية ضد جيش الفرس..
وما زالت الكتب تحفظ وصيتها التي ألقتها إلى أولادها قبل بدء المعركة إذ قالت : "يا بَنيَّ، أسلمتم طائعين، وهـاجرتم مختارين، والله الذي لا إله إلا هو إنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم، ولا هجنت حسبكم ولا غيرت نسبكم!، وتعلمون ما أعده الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خيرٌ من الدار الفانية يقول تعالي: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فإذا أصبحتم غدا إن شاء الله سالمين، فاغدوا إلي عدوكم متبصرين بالله علي أعدائه منتصرين".
وبعد أن نشبت المعركة ووصلها خبر استشهادهم جميعا قالت: "الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مُستقرِ رحمته".
أفبعد هذا يستنكر أبو قيس ذكر الشاعر لها عند ذكر اللقاء (الحرب) ؟
.
• وأما عن جمالها الفائق الأخاذ فقد كان معروفا وعليه دلائل وشواهد، فهي على قوة شخصيتها وشاعريتها لم تكن امرأة جميلة فحسب ، بل كانت من أجمل نساء عصرها .
لقد سُمِّيت الخنساء في بادئ الأمر «تُماضِر» لبياض لونها؛ إذ كانت العرب تسمي المرأة ذات البشرة البيضاء تماضر، ( والبياض عند العرب شطر الحُسن ) .
ثم غلب عليها لقب الخنساء،وهو صفة من الخنس. أي تأخر الأنف عن الوجه أو انخفاض قصبته(أنفها صغير )، وتأتي أيضًا بمعنى الظبية، فأطلقتْ عليها الكلمة من طريق الكناية تشبيها لها بالظبية .
ومعلوم أن العرب يرون في الظباء مثال الجمال الأنثوي.
.
وقد أعجب بجمالها الشاعر دريد بن الصمّة وهو سيد بني جشم والفارس المظفّر الذي إذا خطب يزوَّج وكان صديقا حميما لأخيها معاوية فقد أعجب بجمالها عندما رآها لأول مرة وهام بحبها وتغزّل بها وخطبها مرارا وتكرارا متوسطا إليها بأبيها وبأخيها . ولكنها رفضته على الرغم من إلحاحه بعد مقابلتها له واختبارها لشخصيته. لأنها امرأة صاحبة قرار .
.
وعن محاسن جمالها يقول دريد بن الصمة:
.
حَيّوا تُماضِرَ وَاِربَعوا صَحبي
وَقِفوا فَإِنَّ وُقوفَكُم حَسبي
.
أَخُناسُ قَد هامَ الفُؤادُ بِكُم
وَأَصابَهُ تَبَلٌ مِنَ الحُبِّ
.
ما إِن رَأَيتُ وَلا سَمِعتُ بِهِ
كَاليَومِ طالي أَينُقٍ جُربِ
.
مُتَبَذِّلاً تَبدو مَحاسِنُهُ
يَضَعُ الهِناءَ مَواضِعَ النُقبِ
.
مُتَحَسِّراً نَضَحَ الهِناءَ بِهِ
نَضحَ العَبيرِ بِرَيطَةِ العَصبِ
.
فَسَليهُمُ عَنّي خُناسُ إِذا
عَضَّ الجَميعَ الخَطبُ ما خَطبي
.
كل عام وأنتم بخير
.
ثناء حاج صالح
المنتدى العالمي للأدباء والكتاب العرب
تعليقات
إرسال تعليق