القائمة الرئيسية

الصفحات

تداولية النظام المحادثي - القناع الشعري(*)

تداولية النظام المحادثي - القناع الشعري(*)


تداولية النظام المحادثي

تداولية النظام المحادثي - القناع الشعري(*)

د. نجيب الورافي

إهداء إلى الزميل العزيز د. يحيى داديه استاذ اللسانيات المقارنة المساعد.

تضع المحادثة نفسها بصفتها بنية كلامية تضع نفسها موضع الفعل الكلامي أو الشكل الكلامي الذي يتحقق به التداول أي أننا نتداول عن طريق محادثة فالتداولية في أبسط تعريفاتها تعني دراسة اللغة في سياق الاستعمال والاستعمال لا بد له من مستعملين ومن هؤلاء المستعملين متحادثون.

 قلنا إن التداوليين بنوا رؤيتهم للتحليل التداولي في نطاق اللغة البسيطة المستعملة في الشارع أو داخل الباص في المطعم وقاعة الدرس، أي لغة الناس العادية وفهم المعنى أو تحقق منجز الفعل الكلامي يتم من خلال هذه الصيغ البسيطة التي يستعملونها في حياتهم اليومية. مثل قولنا: أغلق الباب أو الباب مفتوح. وما يقف خلف هذه الأفعال من دلالات يوجهها السياق أولا ثم هي صيغت بموجب قصديات معينة (نية الخطاب) استهدفها المتكلم قبل الحديث عنها.

المحادثة هي بنية تقيم النظام الكلامي التداولي في أي نص أدبي ولها شريكان هما متحدث أول ثم المخاطب وقد ينتقل الخطاب فيتحول المتحدث إلى مخاطب والمخاطب إلى متكلم وهكذا.

 فيما يتصل بالنص الأدبي فإننا ندرس المحادثة فيه فنضع خصوصيته الأدبية في الصدارة، ليس كما نتحدث في اللغة العادية لغة الإفهام ولكن تقف صيغ أو بنيات قد تخرج عن المعتاد فلا تعبر عن ظاهرها فقط. هناك رمز وهناك صورة وهناك تقنيات أخرى تقف لتضع التحادث التداولي في مصاف الخطاب الأدبي أو النص الأدبي، مثل القناع في الشعر وإقامة نظام تحادثي مبني على أساسه، وكذلك الرواية فهي أشبه ما تكون بقناع. لا يتحدث الروائي بلسانه ولا يعنيه ظاهر الألفاظ المستعملة فقط وإنما يقيم نظاما تحادثيا يقنع المتحادثين بشخصيات يتخيلها لتستعمل اللغة.

 مثله الشاعر فيما يتصل بالقناع، يقوم النظام التحادثي على أساس أننا نستعير مستعملين للغة هم المتحدثون الداخليون أو السياقيون في النص. أشرنا إلى ذلك في نص (رجعة الحكيم) وقلنا إن هذا النص، لسان البردوني يقف خارج الخطاب يتحدث بصمت يتحدث من الظل وإنما استعار الحكيم واستعار سواه ليتحادثوا نيابة عنه.
النظام المحادثي يقوم على أساس أن لكل محادثة نظاما خاصا بها، أول أنساق هذا النظام، هو وجود متحادثين في الأقل، يتشاركان الخطاب وينتميان إلى المجال اللغوي نفسه، وإلى الثقافة اللغوية الموحدة، لسان واحد، ثمة متحدث وثمة مستمع هذان يفهمان ما يقال سواء كانا مستعملين داخليين سياقيين نصيين للغة أو خارجيين.
الثاني: تركيب التحادث، بحيث يسبق إلى الكلام متحدث بناء على الرتبة (المقام) التي يتمتع بها (الدور المحادثي). 
بمعنى أن تكون له رتبة خاصة فيبتدر الحديث مثل أن يكون أستاذك وتتحدث أنت بإذن، فتقيم ما يسمى بالتهذب مع المخاطب، إن كان له رتبة علمية، وبامتلاك هذه الرتبة يبتدئ الحديث وإذا خاطبته أنت تقيم التهذب. وللتهذب سماته الظاهرة، إما أن يكون بعبارة، وإما بإشارة جسدية سلوكية، كأن تتحدث وأنت مطأطئ، تبدي الإجلال لأبيك، أقصد أن الإشارة السلوكية الظاهرة هي لغة كأن تتحدث وأنت تبدي الأدب الجم.

في النظام المحادثي الشعري تستعمل وسائل كثيرة، قد ينتظم الخطاب باستعمال الإشارات إلى المتحدثين، مثل استعمال أسماء الأعلام، للدلالة على متحدث ومخاطب بأسماء صريحة، كما سنلاحظ في نص الرجعة. وقد تستعمل فضاءات بصرية كالشرطات في الحوار، واستعمال التراتب السياقي، بمعنى أن نستعمل ضمائر في النص، تشير إلى من هو المتحدث، وقد تستعمل صيغ الحديث نفسها مثل: قال وقلت وقالت.. الى آخر ذلك. هذا ما ننظمه، ونحن نتداول كلام المحادثة، وقد تستعمل إشارات الصمت، خاصة في حال إبداء التهذب، كأن يتحدث الأعلى وتسكت أنت. 

نستخلص من ذلك، أن المحادثة أس بنائي لإقامة النظام التداولي وعلى أساس التحادث، ندرس الإشارات وندرس الفعل الكلامي المتكون بالتحادث، كما سنلاحظ بعد قليل، أرجو أن تمعنوا النظر في المحادثة وعلاقتها التداولية كثيرا تقرأون عنها كثيرا.. أيضا نستخلص أن التحادث بنية كلية أي من حيث هي متوالية من الجمل تعد بنية كلية.

 في نص رجعة الحكيم، قدمنا بأن هذا النص قناعي، وقام نظام الكلام فيه على التحادث من أوله إلى آخره .. هناك متحدث رئيس، النظام يقوم على أساس التناوب بين متحدث رئيس، هو علي بن زايد يشرك معه في استعمال التحادث متحدثين ومخاطبين معا. بمعنى أن البنية هنا مركزية في خطاب متحدث أول هو الحكيم بن زايد وطغيان الكلام على لسانه في النص. 

اذا ما حللنا هذا المتحدث في نطاق رؤيتنا لسياق استعمالات اللغة سوف تلاحظ أن علي بن زايد يمتلك من الرتبة الثقافية والحكمية ما يجعله يحتل الصدارة ويجعل لكلامه موقعا في الأفهام لأنه حكيم مشهور يعرفه القاصي والداني حكيم في الزراعة وفي الجانب الاجتماعي يرتبط في أذهان اليمنيين بالحكمة ومأثوراتها. وهو قناع تقمصه البردوني ليكون جزءا من الصفات للمستعمل الحقيقي للغة في النص وهو البردوني ذاته. لتنتقل صفات علي بن زايد الحكمية وما له من مكانة في الذهنية الشعبية للمتحدث الحقيقي البردوني.

1 . دليل الفعل الكلامي

لو نظرنا إلى بنية النظام المحادثي في نص الرجعة، للاحظنا أنه منذ المطلع يبتدئ بمحادثة، صيغة محادثة، بفعل كلامي غير مباشر، هو قوله (من أين)؟ يفترض السؤال عن مكان - زمان، من أين أخطو من أين أعدو من أين أبدأ عن زماني. هذا سؤال على لسان المتحدث الاول في القناع قد يكون هو نفسه يحدث ويتحدث في آن واحد وقد يكون المتحدث شريكا آخر. 
من أين من باب الذي ما ابتدأ
طلعت أرمي بي دما أو ندى 
بداية من آخر المنتهى 
شبيبة من خلف شيب الردة
طلعت مما كان قبري الذي 
أمسى قبورا نوما سهدا 
أقتاد جنا من حليب السهى
يبيضون العنسي الأسودا
الحديث مازال للإجابة عن سؤال: من أين؟ تمتد المحادثة على لسان الحكيم ونحن نعلم أن هناك إشارات تدل على متحدث واحد مثل روابط الضمائر ومنها تاء الفاعل المضمومة (كنت) التي تشير إلى متحدث وقوله:
يا صاحبي ما عنونت دهشة
وجها ولا من مد نحوي يدا
التحادث هنا يفترض وجود مخاطب موجود أمامك عن طريق التخييل، مثل (قفا نبك) في القصيدة الجاهلية، لا يوجد مخاطب حقيقي ولكنه متخيل في الشعر. طبعا المحادثة تجري على لسان الحكيم والصوت الشعري يمتد في النص فيما يلي من الأبيات إلى قوله:
عباصر اليوم عليها الدجى
صبح كحيل لا يرى من هدى
ولكن صيغ الحديث المستعمل تدل على مشاركين للخطاب أو متحدثين كقوله:
من ها هنا اركب اي باص إلى
ما شئت لست الآن مسترشدا
هناك مستمع ومستعمل آخر للغة.. أيضا قوله: 
يا عم هذا القات هل ذقته
كنا شيوخا قبل أن يوجدا
وأيضا من أفعال الكلام غير المباشرة، هناك سياق يدل على متحادث ثان أو مخاطب، مثل قوله في حديثه مع نساء منكث.
يا منكثيات ابنتي بدرة 
عادت وسموا عودها أحمدا

2 . دليل نظام الضمائر


يدل استعمال ضمير نون النسوة على محادث حاضر مباشر.
 قلتن عنها مرغت لحيتي
وما (عدا إذ ذاك مما بدا)
 أما تأكدتن من ذبحها
من ذا نفى هذا ومن أكدا
 طبعا نحن نستعمل الضمائر سياقا داخليا يقيم النظام التحادثي انظر العكس هذا الإخبار الخالي من سياق التحادث قوله:
 من لا يرجى وهو حي فما 
من حقه إن مات أن يفقدا
بمثابة مثل حكمة مطلقة لكن (تقلن لي) رابط سياقي محادثي هام، ومثلها (سواك اوصي).
سواك أوصي من رأى اثنين ذا
في ذاك أغضى أو أهال الردى
 الكاف دليل على مخاطب وقوله:
 صرتن بعدي مالكا ثانيا
ونرفض الترويج إن قيدا
وقوله
 من عددت منكن ازواجها
بل عددت زوجات من عددا 
النون دليل على مخاطب مباشر عكس المحادث في الغياب.
 ماذا سيخبرن؟ لقين الذي 
حيكيتم من ثوره أبلدا
تدل على متحادث غائب.. الضمائر، السياق الداخلي، هام جدا في إيضاح مستعملي اللغة في النص من البداية إلى النهاية وتشير إلى أن المتحادثين ينتميان إلى بيئة كلامية مكانية واحدة مشتركة أو العكس.
أيا غريب الدار - من أنت؟ 

نكتشف أن منجز الفعل يخضع لسياق تنظيمه الداخلي إن كان هناك تحقير وسخرية إن كان هناك ازدراء واستهجان لأنه عندما يكون المحادث غائبا قد يؤدي إلى منجز فعلي معين وإن كان مخاطبا حاضرا قد يكون المنجز مختلفا وهكذا.

3,. لوازم القول التحادثي

ومنه عن طريق لوازم القول المحادثي التضميني 
من قال رهن المال لا بيعه 
جثمان ذا الموصي غدا (موقدا)
هناك تضمين لمحادث، التضمين نفسه إشارة إلى تحادث وسندرس جمل القول فيما بعد ومن الثضمين للأزمة قولية مكررة.
ما قيل يوماً: كنتٙ بيتاً ولا
بيتين، كنتٙ الموطن المفتدى
بعد ذلك يستعمل صيغ التقويل المباشرة بإشارة قبل القول:
قالت جعار كم ظروف دجت 
وما استبناك بها المرشدا
قال رداع بت في ليلة
أمسيت لصا حالفا مكمدا
مضمن موروث الحكيم (لص وزان وحلاف) انظر هناك استعمالات تحادثية داخلية خفية قوله:
بمن تغزلت؟ 
ويجيب هو: بمن أنبتت
للأرض حراثا ولي أكبدا
هذا ليس عن طريق التقويل وإنما عن طريق التضمين الخفي ومثله:
هل سن قتل الأم قحم الخلا
إن طلقت فردا لكي تضمدا
باستعمال محادثي غير صيغة القول هناك حذف جم في نص رجعة الحكيم هناك منطق في القول
هل قلت عنه؟ كل قلبٍ له
كالبحر قعرٌ قلّٙما أزبدا..
ونحن نكمل بالتأويل بواسطة نص مرافق وكم من نصوص مرافقة قوله:
(كل قلب له كالبحر).
وقال ميدي جئت مستخبرا
أو مُخبراً، أو طفتٙ مسترفدا
جملة جئت مستخبرا تدل على أن هناك أحدا أتى يستعلم ولذلك هناك إقامة لنظام تحادثي خفي جدا ما يسمى بالافتراض المسبق يعني يستلزم عنه أن هناك من يسأل عن شيئ ما لا يوجد مستخبر مباشر ولكنه مضمن، هناك ما يمكن أن يقرأ ما وراء ظاهر الكلام سواء في أقوال التحادث أم في الدلالة.
ابتدآ القناع من عصر الحكيم وهو يعني به الآن عصر الحكمة والنقاء.
هل كنت في عصرٍ بلا دولةٍ؟
فوضاه أرقى من نظام المدى
كان يؤدي ما عليه بلا
أمرٍ، ويصبيه تمام الأدا
ولا يصلي، إنما يبتني
من قلبه في قلبه مسجدا
 ثم انتقل إلى العصر الحديث بوقائعه ابتداء بالحرب اليمنية السعودية 1934 فثورة 1948 وانتهاء بعصر الوحدة. هناك تسلسل في مقاصد الخطاب انتهى إلى الوحدة برمز بدرة بنت الحكيم ثم تتابع المحادثة بوضع معادل الشمال والجنوب مستعملا تقويل المكان. 
يا قصر غمدان هل هناك تحادث نعم طرفه قصر غمدان وهناك قول تحاذث ضمني في قوله:
 أقلتم مات وأوصاكم
وقيل يوم الصيحة استشهدا
 4 . دليل الشكل البصري ويستعمل تضمينات محادثية داخلية خفية، التحادث السياقي، كقوله:

قالت (تعزٌّ): ذاكٙ ما كان، لا
أساله مجرى، ولا جّٙمدا
لو كنُت في (أيلول) دبّٙابةً
أطلقتُ من فكر السنا مٙسردا
كي أملكٙ البٙعدٙ، أعي قٙبْلٙه
بطناً وظهراً، مشهداً مشهدا
ولا أُوٙلّي قائداً، ما أنا
رقيبه الأعتى إذا عربدا
وقوله:
لو كنتٙ في (ردفان) أعلنتُها
أزرى براميهِ كما سددا
(لو كنت في أيلول) بالضم ثم لو كنت في ردفان بالفتح و(أعلنتها) بالضم إلى آخر ذلك. 
---------------------
(*) نص محاضرة في مقرر القضايا البلاغية القديمة والمعاصرة القيتها على طلبة الدراسات العليا الماجستير، شعبة اللغة، قسم اللغة العربية، كلية الآداب جامعة ذمار، الفصل الثاني ، العام الجامعي 2016، 2017,
-----------

مراجع

البردوني (الأعمال الشعرية الكاملة)
جورج يول. (التداولية)
فان دايك . (النص والسياق)

المنتدى العالمي للأدباء والكتاب العرب

تعليقات