عقول نيرة وقلوب مظلمة
صخر محمد حسين العزة
عــُقــولٌ نَــيِّــرة وقُــلُــوبٌ مُــظْــلِــمــة
مرَّت الحياة البشرية مُنذُ نشأتها إلى عِدة عُصورٍ وكُلُّ عصرٍّ يختلف عن الآخرِ في مراحلِ تطوره ، وكُلما تقدمت السنوات ، كان الإنسانُ يزداد تطوراً وتقدماً ، فبدءاً من العصر الحجري إلى العصر البرونزي ومن ثّمَّ العصر الحديدي ، وكُل عصرٍ له حضارته الخاصَّةُ بهِ على وجه الأرض ، وقد استعمل الإنسان النقوش والرسومات على الصخور والكهوف للتعبير عما يُريدهُ من أمور قبل ظُهور فنِّ الكتابة ، فكُلُّ عصرٍ لهُ تميزهُ بصناعته ، ففي العصر الحجري تعلَّمَ الإنسان صُنع النسيج والحِرَف اليدوية ، وفي العصر الحجري الحديث تعرَّفَ على المعادن ، لينتقل بعدها إلى العصر البرونزي ، والذي به بدأ إستعمال المعادن وصناعة الأسلحة والأدوات كالسكاكين والمجارف ، وعلم السبائك ، وفي هذا العصر ظهرت الكتابة وانتشرت بين سُكان الأرض ، وبعد ذلك أتى العصر الحديدي ، وهومكملٌ للعصر البرونزي ، إذ بدأ فيه إستعمال الحديد وصناعة الأسلحة والأدوات التي يستخدمها الإنسان ، وبعد هذه العصور ظهرت حضارات الإغريق والرومان ، وامتدت هذه العصور القديمة إلى أن سقطت روما في عام أربعمائة وستة وسبعين ميلادي ، وظهرت خلالها الشرائع السماوية المسيحية واليهودية .
كانت هذه المُقدمة لمقالي هذا عن تطور الحضارة الإنسانية عبر العصور ، ثُمَّ ظهور الشرائع السماوية المسيحية واليهودية ، ثُمَّ بعد ذلك ظُهور الدين الإسلامي الذي أتى ناسخاً لما قبله وعاماً للبشرية جمعاء ، وقد كانت البشرية قبل ظهور الديانات السماوية وإرسال الله عزَّ وجلْ الرُسُل لعبادته وهدايتهم إلى الطريق القويم ، فقد كانوا يعيشون في خواء روحي ، وكانوا يبتدعون آلهة يعبدونها من دون الله فمنهم من عبد النجوم والكواكب وآخرون عبدوا الأصنام التي يصنعونها وينحتونها بأيديهم ، ومنهم من يعبد النار كالمجوس ، ومنهم من يعبد البقر والفئران كالهندوس ، أو تقديس شخص يعتبرونه إلهاً لهم كالبوذيين ، وما إلى ذلك من عبادات دينوية كُلها شركٌ وكفر بالله .
ولا نزال نرى في وقتنا الحاضر رُغم التقدم والتطور ، من يعبد غير الله ، ونرى ونستغرب من نُخبة من الُعلماء من أطباء ومهندسين ومفكرين من يتعبد بأُمورٍ وأشياءٍ لا تضرُّ ولا تنفع وبعضها صُنع أيديهم وهم عندهم نسبة الذكاء والعبقرية أكثر من غيرهم ، فكيف يكون هذا ، وإلى ماذا يرجعُ ذلك ؟
وأتساءل كيف لهؤلاء البشر بعد أن وهبهم الله العقل للتفكير وتمحيص الأمور ووصلوا إلى أعلى درجات العلم أن يعبدوا غير الله ويُشركوا به ؟
ألا يوجد سببٍ آخر غير العقل يدفعهم إلى الكُفر بدون الإيمان ؟!! والجواب نعم والسبب هو القلب مركز التوحيد والقيادة في الإنسان ، وتفسير ذلك بما سأورده تالياً .
فأقول كيف كان للكون أنْ يُعمرُ ويتطور ، إلا بوجود عقل مُفكر ، أبدع في التخطيط ، وأخضع ما وصل إليه إلى التجربة والبُرهان حتى يصلُ إلى الكمال في صناعته ، ولكي يُقدمها لخدمة مجتمعه وأُمته وللبشرية جمعاء ، وهل يُمكن لهذا الإنسان العاقل المُفكر المُبدع ، أن يقوم بكُلِّ ما قام به من صناعات وإنشاءات بدون وجود عقلٍ ودماغٍ يُفكرُ ويرسمُ به ، فهو بدونه كمثل أيَّ دابةٍ على الأرض ، ما عليها إلا الأكل والرعي ، فما علينا إلا أن نحمُد الله على نِعمة العقل ، التي هي أكبرُ نِعمةٍ حباها الله للإنسان وكرَّمهُ بها عن باقي مخلوقاته . ولكن السؤال الذي يُحيرني ، حول هذه العبادات الدنيوية الآنفة الذِكر ، من هندوسية وبوذية ومجوسية وغيرها من ديانات أُخرى ما أنزل الله بها من سُلطان ، فنرى مثلاً الهندوسية ، كيف أن الهندوسي ذا مكانة مرموقة ووصل إلى درجة كبيرة من العلم ، يتمسَّحُ بروث البقر وينامُ عند قدميها ، أو آخر ممن يعبدون الفئران إذ تكون الفئران تسرح وتمرح في غرفته أو في معبده أو فوق جسده وهو لا يُحركُ ساكناً ، فكيف لك أيها العالم المفكر أن تعبُد فئراناً موطنها المجاري والأماكن القذرة ؟!!، وكيف تتمسح بروث البقر ؟ .
بعد هذه العُجالة أود القول أن الإيمان والعبودية ، لا عُلاقة لها بالتفكير والعقل ، بل كُلُّ ذلك مُرتبطٌ بالقلب ، لأنه هو مركز التوحيد والقيادة في الإنسان ، فيقول الله تعالى في سورة الجاثية [ الآية-23 ] : { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } ففي هذه الآية الكريمة تُبيِّن الخصائص الإنسانية التي تُميزه عن الحيوان وهي القلب والسمع والبصر ، والسمع والبصر هما مدخلا الإدراك والتعقُّل ، فهؤلاء اتبعوا أهواءهم وجعلوا لهم آلهةً يعبدونها من دون الله ، لأنَّ قُلوبهم مُغلقة ، ولهذا تُعطِّل فيهم سمعهم وأبصارهم ، فكيف لهم الهداية وقد سُدَّت منافذ الإيمان جميعها عندهم ، ولو تفكَّروا في خلق الله ونظروا حولهم في الكون وفي بديع خلق السماوات والأرض ، وفي أنفسهم قبل كُلِّ شيء ؛ كيف تكوَّنوا ،وكيف أبدع الله في خلق الإنسان ؟!! قال تعالى في سورة الذاريات[ الآية – 21 ] : { وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ } وفي هذه الآية عِبرةً لكم وتدُلَّكم على وحدانية خالقكم وأنَّهُ لا إله لكم سواه ، إذ كان لا أحدَ يقدرُ على أن يخلقَ مثل خلقه إياكم ، أفلا تنظرون في ذلك ، وتتفكروا فيه فتعلموا حقيقة وحدانية خالقكم ولا شريك له في الكون ، فكيف تعبدون غيره مما لا يضُرُّ ولا ينفع ، ولكن قلوبكم المُظلمة أعمتكم عن حقيقة الوجود ، وكُنه الله عزَّ وجلْ ، قال تعالى في سورة الحج [ الآية – 46 ] : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } وهنا في هذه الآية تأكيدٌ على أنَّ القلب هو مركز العقل والفكر ، وبه يكون العِصيان أو الإطاعة ، قال تعالى في سورة التغابن [ الآية – 11 ] : { وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }.
إنَّ إيمان القلب يكون بالتفكُر والتدبُر في الكون بحثاً عن روح الكون ، وتتناغم معه ليبدأ إيمان القلب وذلك بصلة الروح مع القلب ، وكم من العُلماء والمُلحدين ، الذين كانوا في قِمَّة كُفرهم وحقدهم ومحاربتهم للإسلام ، وهداهم الله بعد أن ْ أُزيلت الغشاوة عن قلوبهم ، وأصبحوا بفضل الله دُعاةً للإسلام ومخلصين في تبليغها . وأورد أمثلة على بعضٍ منهم :
أولاُ : يوسف آستوس – أمريكي الجنسية :
من مدرس موسيقى إلى مُبشِّر بالديانة المسيحية إلى داعية إسلامي ، وقد اعتنق الآلاف الإسلام على يديه .
ثانياً : فينس فوكاريلي ( عبدالسلام ) :
زعيم مافيا إيطالي ورئيس أخطر عصابة وأكبر تاجر مخدرات ، يعتنق الإسلام ، ويفتح مطعماً ، يُطعم فيه المُشردين ويتبرع للمحتاجين ، وكان سبباً في دخول الكثيرين للإسلام .
ثالثاً : جاري ميلر ( عبد الأحد عمر ) :
عالم رياضيات كندي ويعمل أُستاذا في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن ، فقد درس القرآن بهدف إيجاد خطأ ما فيه يساعده في دعوته للنصرانية ، ولكنه انبهر بالقرآن مما دفعه للاعتناق الإسلام .
رابعاُ : روزاريو باسكويني :
من أشهر محامي الدفاع عن الفاسدين بالسلطة في إيطاليا ، أسلم لُيصبح داعية إسلامياً باسم عبدالرحمن ، وقام بتأليف عدة كُتُب باللغة الإيطالية لشرح الفكر الإسلامي ، وهو يعكف على تنظيم مُحاضرات وندوات للتعريف بالإسلام .
هؤلاء جُزءٌ يسير ممن هداهم الله ، وأزال الغشاوة عن قلوبهم ، ليُصبحوا من أكثر الدُعاة للإسلام ، ويُسلِم على أيديهم الآلاف .
وأخيراً أقول في التجارب الإنسانية يقفُ العقل خصماً للقلب ، لأن القلب ميالٌ للشهوات والعقل يستهدف الإنجازات والإبتكارات ، والكثير من تجارب الحضارات في التاريخ ، كان يقودها القلب وينظمها العقل ، والقلب هو الإيمان المُطلق بالفكرة وهو الموجه لكُلِّ إنسان أو لكُلّ حضارة خلَّدها التاريخ .
إنَّ نجاح الإنسان في الحياة يتباين بقدر ما يمتلك من قُدرات عقلية وذكاء عقلي أو ذهني ، وإدراكه لحقائق الأشياء ، والعقل كُلما كان أكثر تفكيراً إزدادت قُدرته على استخدام الأساليب المُبتكرة والإختراعات وازدادت قُدرته على تحقيق النجاح ، أما بالنسبة للقلب فبه نستشعر إنسانيتنا وبه صلاح الإنسان أو فساده ، والله عزَّ وجلْ قال إنَّ الفائز بالجنة يوم القيامة هو صاحب القلب السليم ، قال تعالى في سورة الشعراء [ الآية – 89 ] : { إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } فبالقلب تكون مُتعةُ الحياة ففيه نُحبٌ أو نكره ، وهو مصدر الإيمان أو الكُفر ، إذ قال تعالى في سورة الحج [ الآية – 46 ] : { فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ }.
صخر محمد حسين العزة
عمان – الأردن
20 / 6 / 2022
منشورات سابقة
إلا رسول الله
يا وحدنا
المنتدى العالمي للأدباء والكتاب العرب
تعليقات
إرسال تعليق